الأربعاء، 24 أكتوبر 2012

الكون يتحدي العشوائيه و الصدفه الجزء الثالث

النسب المثالية للغلاف الجوي

إن الغلاف الجوي للأرض يتصف بكونه خليطا مثاليا ملائما للحياة. فهذا الخليط يتكون من 77 % نتروجين و21% أوكسجين و1% من الغازات الباقية مثل ثاني أوكسيد الكربون والأركون وغازات أخرى. ولنبدأ بفحص اهم هذه الغازات وهو الأوكسجين بالطبع، فهذا الغاز مهمّ جدا لأنه يستخدم من قبل أجسام الكائنات الحية وعلى رأسها الإنسان في إجراء التفاعلات الكيمائية لإنتاج الطاقة، ولهذا السبب نحن في حاجة دائمة للأوكسجين ونحصل عليه عن طريق التنفس. والمدهش هنا هو وجود توازن في نسبة الأوكسجين الذي نتنفسه يعتمد على أسس حساسة جدا، وفي هذا الصدد يقول مايكل دينتون Michael Denton:
هل من الممكن أن يحتوي غلافنا الجوي على نسبة أعلى من الأوكسجين وأن يضل ملائما لعيش الإنسان ؟ بالطبع لا، لأنّ الأوكسجين عنصر فعال جدا، ونسبته الحالية في الغلاف الجوي أي الـ21% هي النسبة المثالية لحياة الإنسان والتي لا يمكن تجاوزها، فلو زادت هذه النسبة واحدا بالمائة لزاد احتمال اشتعال الغابات بالصواعق بنسبة 70%. 34

أما جيمس لافلوك James Lovelock البريطاني والاخصّائي في الكيمياء الحيوية فعلق بخصوص هذا التوازن الحساس قائلا :

لو زادت نسبة الأوكسجين عن 25% لاشتعلت الحرائق في كافة الغابات الاستوائية والسهول القطبية بل كافة النباتات التي تشكل الحلقة الرئيسية في شبكة الغذاء للإنسان ... أما النسبة الحالية للأوكسجين فهي محفوظة بواسطة توازن دقيق بين حد الخطر وبين الفائدة.




لو كانت نسبة غاز الأوكسجين في الغلاف الجوي أكثر بقليل مما هي عليه لتحول كوكبنا إلى عالم لا يطاق ولا يمكن العيش عليه. لأن شرارة صغيرة تكفي لإشعال حرائق ضخمة جدا تحول كوكبنا إلى شعلة من النار .



لو كانت نسبة غاز ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي أقل مما هي عليه لنتج من ذلك عدم المحافظة على حرارة سطح الأرض ولتحولت البحار والمحيطات شيئا فشيئا إلى مسطحات متجمدة وبالتالي يصبح كوكبنا غير ملائم للحياة .


إنّ هذا التوازن الدقيق للأوكسجين يتحقق بواسطة دورته في الطبيعة، فالحيوانات تستهلكه بصورة دائمة وتطلق ثاني أوكسيد الكربون أثناء الزفير، أما النباتات فتسلك سلوكا معاكسا لأنها تستهلك ثاني أوكسيد الكربون وتطلق الأوكسجين الضروري للحياة في الهواء، وتقوم هذه النباتات بإطلاق مليارات الأطنان من الأوكسجين يوميا إلى الهواء .


لو كانت الحيوانات والنباتات تملك نفس الفعاليات الحيوية لأصبحت الأرض كوكبا عديم الحياة، وبمعنى آخر لو كانت هذه الكائنات الحية تنتج الأوكسجين لأصبح الغلاف الجوي ذا خاصية فائقة على الاشتعال وتكفي شرارة لاشتعال حرائق كبيرة، وفي النهاية يتحول كوكبنا إلى قطعة من النيران، ومن جانب آخر لو كانت هذه الكائنات الحية تستهلك هذا الغاز مطلقة ثاني أوكسيد الكربون لأصبح الغلاف الجوي بعد برهة قصيرة خانقا للأحياء بالرغم من ممارستها لوظيفة التنفس الحيوية وفي النهاية يحدث الموت الجماعي للأحياء. إلا أن كل ذلك لا يحدث لأن الله الخالق القدير خلق كل شيء بميزان ولذلك يحافظ الأوكسجين على نسبته الثابتة في الغلاف الجوي والتي تعتبر النسبة المثالية لاستمرار الحياة على هذا الكوكب وحسب تعبير لاقلوك : ‘’ إن هذه النسبة تمثل حدا فاصلا بين الفائدة وبين الخطورة ‘’.


يتميز الغلاف الجوي بأنه خليط من الغازات الموجودة بنسب متوازنة توازنا حسّاسا للغاية فكل غاز يوجد بالكمية والنسبة الملائمتين، حتى نسبة ثاني أوكسيد الكربون والضار بالإنسان مهمة جدا، فهذا الغاز يلعب دورا كبيرا في منع رجوع الإشعاعات الشمسية المنعكسة من سطح الأرض إلى الفضاء الخارجي محققا التوازن الحراري للأرض. إنّ مكونات الغلاف الجوي تبقى ثابتة نتيجة النشاطات الحيوية وطبيعة التغيرات الحادثة في التضاريس والطبقات الأرضية في جميع أنحاء الأرض. إنّ هذا التوازن مازال مستمرا منذ آلاف السنين وهذا الاستمرار يوفر الظروف الملائمة للأحياء، وإن هذه الظواهر الطبيعية تعتبر دليلا على أنها وجدت من قبل الله سبحانه وتعالى .


إنّ وجود ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي هو الذي يجعل درجة حرارة اليابسة في حدود 35 درجة مئوية، وهذا يعني أن انخفاض نسبة هذا الغاز في الجو يؤدي إلى جعل معدل درجة الحرارة لكوكب الأرض ليس 14 درجة مئوية بل -21درجة مئوية. أي أن المحيطات والبحار ستتجمد وتصبح الحياة مستحيلة على وجه الأرض .


كثـافة الهـواء


هناك ميزة أخرى للتوازن الموجود في الغلاف الجوي وهي كون هذا الغلاف بالكثافة المثلى الملائمة للتنفس. فالمعروف أن الضغط الجوي يعادل 760ملم زئبق {بمستوى سطح البحر} وكثافة الهواء في نفس المستوى تعادل غراما واحدا في اللتر، أما انسيابية الهواء بمستوى البحر فتعادل 50 ضعف انسيابية الماء. إنّ هذه القيم الواردة ليست مجرد أرقام بل حقائق طبيعية وضرورية لحياة الإنسان لأن الهواء الذي تتنفسه الأحياء يجب أن يتصف بهذه الخصائص المتميزة الموجودة حاليا مثل مقدار الكثافة والانسيابية والضغط الجوي ... الخ.




لو كانت كثافة وانسيابية الغلاف الجوي أكثر بقليل مما هي عليه لأصبحت عملية التنفس صعبة للغاية، ويمكن تشبيهها عندئذ بصعوبة سحب كمية من العسل بواسطة حقنة طبية


إن الرئتين تبذلان طاقة معينة للتغلب على ‘’ مقاومة الهواء ‘’ أثناء التنفس، ومقاومة الهواء تعني الممانعة التي يبديها الهواء ضد أي مؤثر يحاول أن يغير من حالته الحركية، إلاّ أن هذه المقاومة صغيرة للغاية نتيجة الخصائص الأخرى والمميزة للغلاف الجوي، ولهذا السبب تستطيع الرئتان أن تسحب الهواء إلى الداخل وتطلقه خارجا، ولو زادت هذه المقاومة قليلا لازدادت صعوبة عمل الرئتين أثناء التنفس، ويمكن توضيح عمل الرئتين بحقنة طبية نستطيع بواسطتها سحب الماء بسهولة ولكن من الصعب سحب العسل إلى داخلها، فالعسل أكثر كثافة من الماء وأقل انسيابية منه . إذن فإن أيّ تغير في خصائص الغلاف الجوي كالكثافة والضغط والانسيابية يصعب من عملية التنفس كالصعوبة الحاصلة في سحب العسل داخل حقنة طبية. وربّ سائل يسأل: هل نستطيع أن نوسع من قطر الحقنة الطبية وبعبارة أخرى أن تتوسع القنوات التنفسية للرئتين ؟ إنّ هذا التساؤل غير منطقي لأن مثل هذا التوسع يبطل عمل القنوات التنفسية الشعرية والتي تشغل مساحة كبيرة في الرئتين، وتفشل الرئتان في الحصول على الكمية اللازمة من الأوكسجين للجسد، أي أن الخصائص المتميزة للهواء كالكثافة والانسيابية والضغط يجب أن تحمل قيما في حدود معينة ، وإن الهواء الذي نتنفسه يتصف بمثل هذه الخصائص ذات القيم المعينة والمحددة .


ويقول البروفيسور مايكل دينتون في هذا الصدد :


لو كانت كثافة الهواء أكبر مما هي عليه لزادت مقاومة الهواء وزادت معها صعوبة التنفس والحصول على الكمية الضرورية من الأكسجين للحياة بواسطة الرئتين الموجودتين حاليا في أجسام الكائنات الحية ولاستحال تصميم جهاز للتنفس ...ولو أجرينا مقارنة بين الاحتمالات المختلفة لضغط الغلاف الجوي والاحتمالات المختلفة لنسب الأوكسجين فيه باحثين عن قيمة عددية معينة مناسبة لحياة الإنسان لوجدنا حدا ومجالا ضيقا للغاية على خط الأعداد، وتتحقق جميع الظروف الحياتية الملائمة ضمن هذه الحدود الضيقة ومنها اكتساب الغلاف الجوي لخصائصه المتميزة ضمن هذه الحدود وهذا يعتبر أمرا مدهشا للغاية. 37


إن هذه المعايير الحساسة للغلاف الجوي ليست ملائمة لتنفس الأحياء فقط بل تعتبر سببا كافيا لبقاء كوكبنا كوكبا أزرقا اي حاويا على نسبة كبيرة من الماء، ولو انخفض الضغط الجوي لخمس معدلاته لزاد التبخر من المسطحات المائية الكبيرة، وإن هذا البخار الزائد سيغطي سماء الأرض ويعمل عمل البيت الزجاجي أي سيؤدي إلى رفع درجة حرارة الأرض، أما لو زاد الضغط الجوي بمقدار ضعف معدلاته الحالية لقلت عملية التبخر وقلت بالتالي نسبة البخار في الجو وتحولت معظم اليابسة إلى صحاري قاحلة. إلاّ أن كل هذه الاحتمالات لا تحدث أبدا لأن الله جلت قدرته خلق الأرض والشمس والكون بأبهى صورة وأكمل ميزان، وجعل في الأرض موازين دقيقة تعمل مع بعضها البعض بانسجام محققة الوسط الملائم لعيش الإنسان، ويدعو الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين الإنسان إلى التفكر في آياته الموجودة في الأرض وفي السماء داعيا إياه إلى التمعن وشكره على هذه النعم التي لا تحصى .قال تعالى:


اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الرعد/2-4


معجزة الضوء المرئي


تتميز النجوم والمصادر الضوئية المختلفة في الكون بأنها تشع ضوءا مختلفا بعضه عن بعض، وإن هذا الاختلاف نابع من الاختلاف الحاصل في الطول الموجي للضوء المنبعث من مصدره. والأطوال الموجية للإشعاعات الضوئية تختلف اختلافا كبيرا فيما بينهما، فالفرق بين طول موجة أشعة غاما والتي هي من الإشعاعات قصيرة الموجة وطول موجة الإشعاع الراديوي كبير جدا يقدر بـ10قوة 25 أو مليار مليار مليار مرة، والمعجزة التي نحن بصدد شرحها هي كون معظم الأشعة المنبعثة من الشمس محصورا في جزء قليل جدا ضمن هذا الفرق الشاسع للطول الموجي {10قوة 25 ، لأن الضوء أو الإشعاعات الملائمة لحياة الإنسان توجد ضمن هذا الجزء الضيق. والنقطة المهمة الواجب أخذها بعين الاعتبار هي الفرق الشاسع بين الأطوال الموجية المختلفة، فأقصر طول موجي يكون أصغر بمقدار 10قوة25 مرة من أطول طول موجي، والرقم 10قوة25 يساوي واحدا وبجانبه خمسة وعشرون صفرا، ولأجل فهم ماهية هذا الرقم يكتب على هذا الشّكل 10000000000000000000000000 ينبغي إجراء بعض المقارنات لمعرفة مدى هول وضخامة هذا العدد. على سبيل المثال يمكن القول بأن عمر الأرض يساوي 4 مليار سنة.فلو ذكرنا هذا العمر المديد بحساب الثواني نقول أنه يساوي 10قوة 17 ثانية. ولو بدأنا العد حتى البلوغ إلى رقم 10قوة 25 لاستغرق منا وقتا قدره 100مليون ضعف عمر الأرض على افتراض أننا مستمرون في العد ليلا ونهارا وبدون توقف، ولو وضعنا 10قوة25 ورقة من أوراق لعب القمار فوق بعضها البعض لامتد طول هذه المجموعة من هذه الأوراق خارج مجرتنا {درب التبانة} بمسافة كبيرة جدا بل حتى نصف الكون الذي يمكن رؤيته من الأرض. 38


فالأطوال الموجية المختلفة في الكون موزعة على مثل هذا الشريط الطويل جدا من القيم العددية الهائلة، والغريب هنا أن الإشعاعات القادمة إلينا من الشمس تنحصر في نطاق ضيق جدا ضمن هذه القيم العددية، وإنّ سبعين بالمائة من الإشعاعات القادمة من الشمس ينحصر طولها الموجي بين 20, -1,50 مايكرون، وتقسم هذه الإشعاعات إلى ثلاثة أقسام: الضوء المرئي و الأشعة تحت الحمراء و الأشعة فوق البنفسجية. وربما بدت هذه الأقسام كثيرة العدد نوعا ما ولكن مجموعها يشكل حيزا ضيقا ضمن الأطوال الموجية العديدة جدا في الكون، وبعبارة أخرى فإنّ الضوء القادم من الشمس يشكل ورقة واحدة ضمن الأوراق الـ10قوة 25 التي أوردناها في المثال السابق.


ولكن لماذا تم حصر الأشعة الشمسية ضمن هذا الحيز الضيق للغاية ؟


والجواب في غاية الأهمية :إن سبب كون الأشعة محصورة ضمن هذا الحيز الضيق نابع من كونها الأشعة الوحيدة الملائمة للحياة على هذا الكوكب. ويتناول الفيزيائي البريطاني إيان كـامبل Ian Campbell هذا الصدد في كتابه ‘’ الطـاقة والغـلاف الجـوي’’ Energy and The Atmosphere قائلا إن من المدهش جدا الى درجة لا يمكن تصديقها أن تكون الأشعة التي ترسلها الشمس موجودة ومحشورة ضمن النطاق الضيق جدا والضروري لإدامة الحياة.




إنّ الضوء الذي تشعه الشمس يعتبر أحدى الموجات الضوئية المنتشرة في أرجاء الكون ويقدر عدد هذه الموجات بـ10قوة25 موجة مختلفة الطول ، والغريب أن موجة واحدة فقط من 10قوة 25 موجة هي التي تلائم الحياة على هذا الكوكب تعتبر تصميما خارقا ومعجزا و لا يمكن تفسيره بكلمة ‘’المصادفة’’ أبدا، لإنّ الضوء الذي تشعه الشمس لنا مختار بعناية فائقة ليلائمنا على هذا الكوكب من بين التريليونات التريليونات من الاشعاعات الموجودة في الكون .


الانسجام المعجز بين ضوء الشمس وبين


عملية التركيب الضوئي


تستطيع النباتات أن تنجز أمرا يعجز عنه كل الخبراء في أرقى المختبرات المجهزة بأفضل الأجهزة الممكنة. وتقوم النباتات بهذا العمل الرائع منذ ملايين السنين. فهي تقوم باستخدام الضّوء الشمسي في أثناء عملية التّركيب الضوئي لإنتاج الغذاء، ولكن هذه العملية لا تتحقق إلاّ بشرط كون الضوء القادم من الشمس ملائما لإجراء هذه العملية الكيماوية.


والشيء الذي يكسب النباتات ميزة إجراء عملية التّركيب الضوئي هو وجود جزيئات الكلوروفيل في خلاياها وهذه الجزيئات تتصف بكونها حساسة تجاه الضوء.ولكن الكلوروفيل لا تستطيع سوى استعمال الأشعة الضوئية ذات الأطوال الموجية المعينة الطول والشمس بدورها تشعّ ضمن ضوءها هذه الأطوال الموجية. والجانب المهم في الموضوع يكمن في وجود هذه الأطوال الموجية في جزء واحد فقط من ضمن أطوال موجية هائلة العدد يبلغ عددها 10 قوة 25 في الكون. إنّ كون الضوء المنبعث من الشمس ملائما تماما لصفات الضوء اللاّزم لإحداث عمليّة التركيب الضوئي يعتبر أمرا محيرا للغاية. ويعلق الفلكي الأميركي جورج كرينشتاين George Greensteinعلى هذا الأمر في كتابه ‘’الكون التكافلي ‘’ قائلا :


إنّ الجزيئة التي تقوم بعمل التركيب الضوئي هي جزيئة الكلوروفيل...وخطوات هذا التركيب الضوئي تبدأ بعملية امتصاص الكلوروفيل لضوء الشمس، ولأجل حدوث هذا الامتصاص ينبغي أن يكون هذا الضوء باللّون المناسب، واللون غير المناسب غير مفيد طبعا في إجراء هذه العملية. ولتبسيط الأمر نورد المثال الآتي: التلفزيون ينبغي أن يكون قادرا على استلام البث بتردد معين كي تظهر الصورة في قناة معنية على الشاشة، ولو غيرنا قابلية الاستلام على تردد آخر لاختفت الصورة من الشاشة، ونفس الشيء يجري في عملية التركيب الضوئي، فالشمس يمكن تشبيهها بمحطة الإرسال التلفزيوني والكلوروفيل يكون بمثابة التلفزيون المستقبل لهذا الإرسال، فلو لم يكن الكلوروفيل والشمس تعملان بنفس التردد لما حدثت عملية التركيب الضوئي، فلو نظرنا إلى الأشعة الضوئية القادمة من الشمس لأدركنا أن ألوانها هي نفس الألوان التي تعتبر ضرورية لإحداث هذه العملية 40


وربما قال قائل نتيجة إدراكه السطحي لعملية التركيب الضوئي والنباتات ‘’إن النباتات كانت ستبدي تكيّفا ملائما لأي اختلاف في ضوء الشمس القادم إلينا ‘’ولكن هذا غير ممكن بالمرة، وهذا النفي يؤكده جورج كرينشتاين نفسه بالرغم من كونه أحد دعاة نظرية التطور قائلا:


ربما يعتقد إنسان أنّ هناك نوعا من التلاؤم يحدث في هذا الأمر، أو يفترض أن النبات يبدي تغييرا أو تكيفا تلاؤما مع خصائص الضوء القادم من الشمس،أي لو كانت حرارة الشمس مختلفة اي لو كانت تشع اشعاعا مختلفا الا يمكن أن تتطور جزيئة أخرى بدلا من الكلوروفيل بحيث تستطيع الاستفادة من هذه الأشعة الجديدة؟


الجواب الواضح هو: ‘’لا’’... لأن جميع الجزيئات المختلفة تقوم في أحسن الفروض بامتصاص بعض ألوان الضوء فقط من ضمن الطيف الضوئي الكبير جدا، وإنّ عملية امتصاص الضوء من قبل الجزيئات تتوقف على حساسية الإلكترونات تجاه مستويات الطاقة العليا، ولو أخذنا أية جزيئة كانت لوجدنا أن عملية الامتصاص تتطلب نفس المستوى من الطاقة، فالضوء يتألف من الفوتونات والفوتون لا يتم امتصاصه أبدا إذا وجد على مستوى طاقة مختلف عن المستوى المفروض ......وبإيجاز هناك تلاؤم بين الخصائص الطبيعية للنجوم وبين الخصائص الطبيعية للجزيئات، ولو لم يكن هذا التلاؤم العجيب موجودا لأصبحت الحياة مستحيلة. 41


ويلخص كرينشتاين قوله بما يلي: إنّ قدرة أيّ نبات على إجراء عملية التّركيب الضوئي ممكنة ضمن أطوال موجية معينة فقط. وهذه الأطوال الموجية هي الأطوال الموجية للضوء القادم إلينا من الشمس. والتلاؤم الذي يتحدث عنه كرينشتاين بين ‘’الخصائص الطبيعية للنجوم وبين الخصائص الطبيعية للجزيئات ‘’ لم يأت عن طريق المصادفة أبدا ولا يمكن تفسيره على هذا الأساس أبدا لأنه تلاؤم خارق ومعجز، فإشعاع الشّمس للضّوء ملائم لنا من بين 10قوة25 طولا موجبا مختلفا، ووجود جزيئات معقدة التركيب على الأرض لاستقبال هذا الضوء واستخدامه في إجراء عملية التركيب الضوئي هو دليل قاطع على كون هذا التلاؤم موجودا بأمر الله سبحانه وتعالى.







تقوم النباتات بصنع الغذاء اللازم لها بواسطة أوراقها وعن طريق إجراء عملية التركيب الضوئي. وجميع الكائنات الحية تقوم بالحصول على الطاقة عن طريق التغذي على الغذاء الذي تصنعه النباتات بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولا يستطيع النبات أن يجري عملية التركيب الضوئي إلا بوجود حدود معينة للطول الموجي وهذه الحدود هي نفسها التي تقع ضمن الضوء الصادر من الشمس .



هناك أمر محير آخر يخص الضوء يتمثل في أن الألوان المختلفة من الضوء تستطيع اختراق أعماق مختلفة من الماء، على سبيل المثال لا يستطيع الضوء الأحمر أن يخترق الماء إلا بحدود 18 مترا ثم يضمحل تأثيره. أما الضوء الأصفر فيستطيع الاختراق لمسافة 100متر في عمق الماء، ولكن الأخضر والأزرق يستطيعان اختراق الماء حتى 240مترا، وهذه الخاصية مودعة في هذين اللونين بالذات لأن النباتات لا تستطيع إجراء عملية التركيب الضوئي إلا بوجودهما أولا لذلك فإن الحياة النباتية موجودة في الماء حتى عمق 240 مترا.



يخترق ضوء الشمس الأوراق النباتية نافذا إلى الطبقات الداخلية، وبالتالي يقوم الكلوروفيل الموجود في البلاستيدات الخضراء للأوراق بتحويل الطاقة الضوئية إلى طاقة كيمائية. وتقوم النباتات باستخدام هذه الطاقة فورا في إنتاج غذائها. إنّ المعلومات الموجودة في هذه العبارات القليلة السابقة استغرقت من العلماء أبحاثا كثيرة طوال النصف الأول من القرن العشرين ، وإنّ كتابة هذه العملية بالتفصيل تملأ صفحات كثيرة من الورق لكثرة وتشعب التفاعلات الكيمائية الحاصلة، وهناك جوانب لم تكتشف بعد في عملية التركيب الضوئي، علما أنّ هذه النباتات مستمرة في إجراء هذه العملية منذ ملايين السّنين ودون أيّ خطأ مانحة لنا وللبيئة الأوكسجين والغذاء .


إن الأشعة الملائمة لحدوث هذه العملية هي أشعة واحدة من ضمن عدد من الأشعات يبلغ عددها 10 قوة 25 أشعة مختلفة في الكون. وهذه الأشعة الملائمة هي الأشعة التي تشعها الشمس تجاهنا


الانسجام المعجز بين العين وبين ضوء الشمس

إنّ الضّوء الممكن رؤيته باستخدام حاسّة البصر يدعى بـ’’الضّوء المرئي’’ ويتألف من عدة أطوال موجية معينة، وجزء كبير من الطيف الشّمسي يقع ضمن هذه الأطوال الموجية. ولو دققنا في هذا الأمر لوجدنا أنّ أساس حدوث الرؤية هو قدرة خلايا الشّبكيّة على تمييز الفوتونات. وهنا ينبغي على الفوتون أن يكون ضمن الأطوال الموجية المذكورة سابقا، وإلاّ فسوف يكون هذا الفوتون إمّا ضعيفا جدا أو شديدا جدّا وفي كلا الحالتين لا يستطيع إحداث تأثير ما على خلايا الشبكيّة، أمّا كبر حجم العين أو صغره فلا يفيد شيئا في هذا المجال، و المهمّ هو مدى ملاءمة طول موجة الفوتون لحجم الخلية.

و من المعلوم أنّ مواد البناء الأساسية للخلايا الحية هي الجزيئات العضوية، وتتكون الجزيئات العضوية من مختلف المركبات الكيماوية للكربون ومشتقاته، وهذه المركبات والخلايا الحساسة للضوء والتي تتألف من هذه الجزيئات العضوية لا يمكن أن تميّز أطوالا موجية مختلفة عن الأطوال الموجية للضوء المرئي. وبإيجاز لا يمكن أن توجد عين مختلفة التصميم تعمل بكفاءة وفق الظروف الموجودة على كوكبنا ولا يمكن لها أن تستقبل الضوء غير المرئي أبدا.

ونتيجة لذلك تستطيع العين أن ترى أو تميز حدودا معينة من الأطوال الموجية وتتمثل في الضّوء المرئي للشمس. ولا يمكن إيراد تفسير وجود هذين العاملين صدور ضوء معين من الشمس ووجود عين ملائمة لتمييزه بكلمة المصادفة بل يمكن تفسيره بكلمة الخلق بقدرة الله عز وجل.

ويتناول البروفيسور مايكل دينتون هذا الموضوع بالتفصيل في كتابه ‘’مصير الطبيعة Nature Destiny’’ مؤكّدا أن العين المتكونة من الجزيئات العضوية لا تستطيع أن تميّز سوى الضّوء المرئي، ولا يمكن نظريا لعين لها خصائص أخرى مفروضة جدلا أن تميز الضوء غير المرئي أبدا ويقول في هذا الصدد :

إن الأشعة فوق البنفسجية والأشعة السينية وأشعة كاما ليست إلاّ إشعاعات تحمل طاقة هائلة وذات قدرة تدميرية متميزة، أمّا الأشعة تحت الحمراء وباقي موجات الميكرويف فلها ضرر بالغ على الحياة، و أمّا الأشعة القريبة من تحت الحمراء والموجات الراديوية فلها طاقة ضعيفة جدا ولا يمكن تمييزها ...ويتضح مما تقدم أن الجزء المرئي من الطيف الكهرومغناطيسي هو الملائم تماما لحاسة البصر وخصوصا لعين الإنسان وشبيهاتها من عيون الأحياء الفقرية والتي تعمل عيونها مثل كاميرا عالية الحساسية، ولا يوجد أي طول موجي آخر مناسب لهذه العيون أبدا. 42

ولو تأملنا في هذه الأمور مجتمعة لتوصلنا إلى النتيجة التالية : وهي أنّ الشّمس مخلوقة بعناية تامة كي تشعّ هذا الضّوء وبهذه الأطوال الموجية التي تشكل جزء واحدا من 10قوة 25 جزء من الأطوال الموجية الموجودة في الكون ويكفي هذا الجزء للتوازن الحراري لكوكب الأرض، ويكفي أيضا لأداء الأحياء المعقدة التركيب فعالياتها الحيوية ويكفي أيضا لأداء النباتات عملية التركيب الضوئي ويكفي أيضا لتحريك حاسة البصر لدى الأحياء، ومن الضروري أن لا يكون كلّ ذلك نشأ مصادفة، ذلك التعبير البعيد كل البعد عن العقل والمنطق، بل هو الخلق بقدرة الله تعالى فاطر السماوات والأرض وما بينهما، وإن كل شيء مخلوق يعتبر حلقة في سلسلة المعجزات الإلهية والتي تبرز أمامنا في كل لحظة مذكرة إيانا بقدرة الله التي لا حدّ لها


أكثر الأطوال الموجية ملائمة لحاسة البصر لدى الكائنات الحية هي الأطوال الموجية التي تقع ضمن الطيف الشمسي .

الخاصية الانتقائية المدهشة للغلاف الجوي

كما ذكرنا في السّطور السّابقة فإنّ الإشعاعات القادمة من الشمس تمتلك خصائص معينة تدعم الحياة على وجه الأرض ولكن يجب وصولها إلى الأرض بجرعات معينة لا تتجاوزها والضابط لها بالطّبع هو الغلاف الجوي. فالإشعاعات القادمة من الفضاء الخارجي باتجاه الأرض ينبغي أن تمر من الغلاف الجوي أولا، ولو لم يكن الغلاف الجوي ذا نفاذية انتقائية لما كانت هذه الإشعاعات ذات فائدة أبدا. والغلاف الجوي يتميز بخاصية معينة تجعله يعمل كمرشح للإشعاعات قبل نفاذها من خلاله نحو الأرض .

والظاهرة الإعجازية في الأمر تتمثل في أنّ الغلاف الجوي لا يسمح إلا لإشعاعات معينة بالنفاذ كالضوء المرئي والأشعة القريبة من تحت الحمراء. أما باقي الإشعاعات الكونية والضارة فلا يسمح لها أبدا بالمرور. ويعمل الغلاف الجوي عمل منخل أو مرشح للضوء أو الإشعاعات الفضائية المختلفة. ويشرح البروفيسور دينتون هذا الأمر كما يلي:

إن الغازات التي تغلف الغلاف الجوي تقوم بامتصاص كافة الإشعاعات القادمة من الفضاء عدا الضوء المرئي والأشعة القريبة من تحت الحمراء ويتم هذا الامتصاص بكفاءة عالية جدا، والأمر الملفت للانتباه هو سماح الغلاف الجوي للضوء المرئي والأشعة القريبة من تحت الحمراء بالنفاذ من خلاله من بين الكم الهائل من الأطوال الموجية الآتية من أغوار الفضاء. وتكاد الأشعة فوق البنفسجية و أشعة كاما والإشعاعات الباقية ذات الترددات ومن المستحيل أن لا نميز الحدث الخارق الحادث أمامنا، فالشّمس تشعّ ضوءا مناسبا لنا من بين 10قوة 25 احتمالا للإشعاع، ويقوم الغلاف الجويّ بدوره بالسّماح لهذا الضوء المناسب بالنفاذ من خلاله. وهناك قليل من الأشعة فوق البنفسجية يصل إلينا من الشّمس ولكنّه يصطدم بحاجز متمثل في طبقة الأوزون.

وهناك نقطة أخرى مهمّة تعتبر ذات صلة بهذا الأمر وهي خاصّية النفاذية الانتقائية للماء. فالماء يسمح بمرور الضوء المرئي فقط.حتى الأشعة القريبة من تحت الحمراء والتي تعتبر مصدرا للحرارة لا تنفذ خلال الماء إلا لبضعة مليمترات فقط. لذلك فإنّ السّطح الخارجي للبحار والمحيطات والمسطّحات المائيّة الأخرى هو الذي يسخن نتيجة تعرضه لأشعة الشّمس وهذا التسخين يصل تأثيره إلى عمق عدة مليمترات لا غير. وهذه الحرارة يتمّ نقلها الى الأعماق شيئا فشيئا. وفي عمق معين تكون جميع البحار والمحيطات متشابهة الحرارة إلى حد ما، وهذا التّشابه يوفر وسطا ملائما للحياة البيولوجية تحت سطح البحار والمحيطات. فالماء والغلاف الجوّي كلاهما يسمحان بالأشعة الملائمة لنا بالنفاذ. أمّا الإشعاعات الكونية القادمة من النجوم البعيدة وذات التأثير الضّار للحياة فلا يسمح لها البتة بالمرور عبر هذا المرشح الخارق.

وهذه الحقائق مهمّة للغاية، فلو تفحصنا أي قانون فيزيائي لوجدنا أن كل شيء سخّر ليتلاءم مع حياة الإنسان. وهناك تعليق وارد في الموسوعة البريطانية حول هذا الموضوع يعكس وجهة النظر المبينة لحقيقة الإعجاز في هذا الحدث كما يلي:

لو فكرنا في أهمية الضّوء المرئي لمختلف جوانب الحياة على هذا الكوكب وحقيقة تميّز الغلاف الجوي والماء بالنفاذية الانتقائية للإشعاعات ضمن حدود ضيقة جدا للأطوال الموجية المعينة لما تمالكنا أنفسنا من الحيرة والإعجاب أمام هذه الحقيقة المذهلة. 44

وكما ذكر سابقا فإنّ ميزة الماء والغلاف الجويّ اللذين يملكان خاصية انتقائية للإشعاعات الملائمة للحياة تعتبر ميزة إعجازية بالفعل. ويجب أن نشير هنا إلى أنّ هناك بعض من يدعي بأنّ الماء والغلاف الجوّي قد اكتسبا هذه الميزة بالمصادفة وأنهما ينظمان هذه العملية تلقائيا. ولكن الأمر المحتم هو عدم قدرة أيّ شيء في الكون على تنظيم نفسه بنفسه تلقائيا، فلا الماء ولا الغلاف الجوّي يمكنهما إجراء ذلك. فمن المستحيل للمصادفة أن تولد أحداثا عشوائية تنتهي بظهور نظام أو أنظمة غاية في التوازن والانسجام فيما بينها. فهناك تصميم خارق ونظام وتعيير في كل جزء من أجزاء الكون الذي نعيش فيه وفي كل قانون فيزيائي وفي كل توازن يحكم وسطا ما. و لقد عاش الإنسان منذ مئات الآلاف من السّنين دون أن يدري بحقيقة وجود هذه المعجزات الطبيعيّة حتى الأمس القريب. وإن هذه الحقائق تعتبر معجزات لا يمكن للعقل الإنساني استيعابها بسهولة وهي تعتبر دليلا خارقا تقوده إلى التسليم والخضوع لقدرة الله تعالى.

والحقيقة أنّ المحير هو وجود أناس مازالت على أبصارهم غشاوة تحجبهم عن رؤية قدرة الله على الخلق من العدم وعلى البعث بالرّغم من هذه المعجزات الخارقة التي تنطق بجلاء بأنّ خالقها وموجدها هو الله العلي القدير. وقد ذكر الله عز وجل في محكم كتابه المبين حال هؤلاء الغافلين:

أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون يس/77-83


إنّ الغلاف الجوي يقوم بالسماح للأطوال الموجية المفيدة لنا من الضوء بالنفاذ من خلاله ولا يسمح للموجات الضارة بذلك. وهذه الصفة تتطلب وجود خاصية ‘’ القدرة الانتقائية ‘’بدرجة مدهشة، إن هذه الخاصية تعتبر نتيجة لتخطيط دقيق في عملية الخلق المعجز .

الموازين الدقيقة لخواص الماء الفيزيائية

لقد ذكر البروفيسور البريطاني نيدهام prof.A.E.Needhamالأخصائي في الكيمياء الحيوية في كتابه ‘’ خاصية التفرد في المواد الحيوية The Uniqueness of Biological Materials’’ بأنه من الضّروري لنشأة الحياة أن تتوفر المواد السائلة، فلو كانت قوانين الكون تسمح بوجود الحالة الصلبة والغازية للمادة دون الحالة السائلة لما نشأت الحياة أبدا، لأنّ الذّرات في الحالة الصّلبة قريبة من بعضها جدا و تكاد لا تتحرك ولا توفر الوسط الملائم لحركة الجزيئات ضمن الفعاليات الحيوية للكائن الحي، أمّا الغازات فتتميز ذراتها بحرية الحركة وذات خاصية متطايرة. وفي وسط كهذا لا يمكن أن تتحقّق أيّ من الفعاليات الحيوية المعقدة للكائن الحي. وبإيجاز ينبغي توفر وسط سائل كي تجري فيه كافة مظاهر الحياة التي يمارسها الكائن الحي، ويعتبر الماء هو السائل المثالي بل الوحيد من بين السوائل، لأنه يمتلك خصائص ملائمة بدرجة مدهشة لاستمرار الحياة بكافة مظاهرها. وقد لفتت هذه الحقيقة انتباه العلماء منذ القدم، والدليل على ذلك تميز الماء ببعض الخواص التي تتعارض مع قوانين الطبيعة مثل بعض خواصه الحرارية. فالمعروف أن المواد تتقلص كلما انخفضت درجة حرارتها، فالسّوائل عندما تنخفض درجة حرارتها يتقلص حجمها، وكلما قل الحجم كلما ازدادت الكثافة أي تصبح الأجزاء الباردة أثقل وزنا، ولهذا السبب تكون السوائل أثقل عندما تتحول إلى الحالة الصلبة ولكن الماء يشذ عن هذه القاعدة، فالماء يتقلص حجما كغيره من السوائل حتى + 4 درجة مئوية ولكن بعد هذه الدرجة يبدأ حجمه بالازدياد، وعند تجمّده يستمر زيادة في الحجم، ولهذا السبب يكون الثلج أخف وزنا من الماء، ولهذا السبب أيضا يطفو الثلج على الماء بدلا من غوصه إلى الأسفل شاذا عن قوانين الفيزياء.

وخاصية الماء التي شرحناها سابقا تعتبر ذات أهمية قصوى بالنسبة إلى المسطحات المائية الموجودة في عالمنا، ولو لم توجد هذه الخاصية أي لو لم يطف الثلج على سطح الماء لتحولت معظم البحار والمحيطات إلى جليد ولما استمرت الحياة فيها. ودعونا نتوغل في تفاصيل هذه الظاهرة، فالمعروف أن هناك مناطقا في كوكبنا الأرض تنخفض فيها درجة الحرارة شتاءا إلى مادون الصفر، وهذه البرودة لابد لها أن تؤثر على البحار والبحيرات، فهذه المسطحات المائية تنخفض درجة حرارتها شيئا فشيئا، والطبقات الخارجية الباردة تنزل إلى الأسفل لتحل محلها الطبقات السفلية الأكثر دفئا والأخيرة بتماسّها مع الهواء تنخفض درجة حرارتها وتنزل إلى الأسفل هي الأخرى، ولكن هذا التوازن الحراري يبدي شذوذا عندما تصل درجة الحرارة حتى 4درجة مئوية، فعند كل درجة انخفاض يتمدّد الماء ويقلّ وزنا، وهكذا تبقى الطبقة التي درجة حرارتها 4درجة مئوية في الأسفل، وفوقها الطبقة التي درجة حرارتها 3درجة مئوية وفوقها الطبقة التي درجة حرارتها 2درجة مئوية وهكذا حتى نصل إلى السطح الخارجي الذي يتجمد لانخفاض درجة حرارته حتى الصفر المئوي، والذي يتجمد السطح الخارجي فقط، أما الطبقات التي تحته والتي تكون درجة حرارتها 4درجة مئوية فتعتبر كافية لعيش الأسماك والكائنات الحية المائية.

ماذا لولم يحدث هذا الأمر؟ أي لو سلك الماء سلوكا عاديا كغيره من السوائل من ناحية ازدياد الكثافة كلما ازداد انخفاض الحرارة وغطس الثلج في الماء ماذا يحدث يا ترى ؟

في هذه الحالة كان التجمّد سيبدأ من الأسفل في كافة البحار والمحيطات والبحيرات، وكان سيستمر نحو الأعلى لعدم وجود طبقة ثلج عازلة لما تحتها، وهكذا ستصبح البحار والمحيطات كتل ثلجية ضخمة، وكان سيبقى قليل من الماء السائل فوق الثلج وحتى لو ارتفعت درجة الحرارة فإن طبقات الثلج السلفية لا تتأثر بهذا الارتفاع. وعالم مثل هذا لا يمكن أن تعيش فيه الكائنات الحية، وبالتالي لا يمكن للكائنات البرية أن تعيش في بيئة قسمها المائي متجمد تماما، وملخص القول أن كوكبنا كان سيصبح عالما ميّتا لو سلك الماء سلوكا عاديا. ولكن لماذا يسلك الماء هذا السّلوك الشاذ بعد انخفاض درجة حرارته حتى 4 درجة مئوية وبعد تقلصه المنتظم ؟ إنّ هذا السّؤال لم يستطع أحد الإجابة عليه .

إنّ خواصّ الماء الحرارية لها فوائد جمّة بالنسبة إلى الإنسان، فالفرق بين الحرارة في الليل عنها في النهار أو الفرق بين الحرارة في الشتاء عنها في الصيف يكون دائما في الحدود التي يتحملها أو يطيقها الجسم البشري وكذلك أجسام باقي الكائنات الحية. ولو كانت نسبة الماء إلى اليابسة في كوكب الأرض أقل مما هي عليه لكان الفرق الحراري بين الليل والنهار كبيرا جدّا ولتحولت أجزاء كبيرة من اليابسة إلى صحاري قاحلة و لاستحال وجود الحياة أو أصبحت صعبة للغاية في حالة وجودها. فلو كانت خواصّ الماء الحرارية مختلفة عمّا هي عليه لتحوّلت الأرض إلى كوكب غير ملائم لنشأة الحياة عليه. ويعلّق لورنس هندرسون Lawrence Henderson أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة هارفارد على خواصّ الماء الحرارية بعد إجرائه أبحاثا عليها قائلا:

‘’أودّ أن أذكر وبإيجاز أنّ خواصّ الماء الحرارية لها فوائد من ثلاث نواح:

الأولى: يقوم الماء بحفظ التوازن الحراري وضبطه لكوكب الأرض .

الثانية: يقوم بتنظيم حرارة جسم الكائنات الحية بأحسن صورة ممكنة .

الثالثة: يسيطر الماء على التحولات المناخية .

ويؤدّي الماء هذه التأثيرات الثلاثة بأعلى درجة من الانسجام ولا يمكن مقارنة أية مادة من ناحية التأثير مع الماء.


تتميز المياه بأن سطحها هو الذي يتعرض للتجمّد فقط لذا يطفو الثلج فوق الماء ولا يغوص فيه أبدا، ولو كان يسلك كغيره من السوائل أي لو كانت كثافته تزداد عند انخفاض درجات الحرارة على الدوام، وبمعنى آخر لو غطس الثلج في الماء بدلا من طفوه عليه لتجمدت البحار والمحيطات من الأسفل.ولعدم وجود طبقة متجمدة في سطح الماء تلعب دورا عازلا للتجمد من الأسفل،فإن هذا التجمد كان سيستمر من الأسفل نحو الأعلى . وهكذا كانت المياه ستتجمد في جميع البحيرات والبحار والمحيطات وتتحول إلى كتل ضخمة من الجليد. أي يستحيل وجود الحياة فيها. وهذا الأمر سيؤثر على شبكة الحياة في البر لترابطها مع شبكة الحياة المائية .وبإيجاز لو كان الماء يسلك سلوكا عاديا لتحول كوكبنا إلى عالم ميت لا محالة.


تستطيع النباتات أن تسحب الماء وتنقله من أعماق الأرض إلى أمتار عالية لأغصانها وأوراقها دون أن تملك عضلات أو مضخات مائية، وسبب هذه القابلية هو الشد السطحي للماء، فالقنوات الموجودة في الجذور و الشعيرات الجذرية مخلوقة لتلائم خاصية الشد السطحي للماء. وتتميز هذه القنوات بأنها تزداد ضيقا كلما اتجهت إلى الأعلى وهذا الضيق يسبب صعود الماء نحو الأعلى، ولو كان الشد السطحي للماء قليلا كغيره من السوائل لما استطاعت النباتات أن ترتوي أو تمتص الأغذية والأملاح و بالأحرى لما استطاعت أن تستمر في الحياة. و إذا كان عالمنا يفتقر إلى الغطاء النباتي فلا يمكن لهذا العالم أن يكون ملائما لعيش الإنسان .

خاصية الشّد السّطحي للماء وجدت لتلائم الحياة

خاصية الشّدّ السطحي للسوائل تنشأ من جذب جزيئاتها لبعضها البعض، ويختلف كل سائل عن الآخر من ناحية قوة الشد السطحي. ويتميز الماء بكونه يمتلك شدا سطحيا أكبر من أغلب السوائل و هذه الميزة لها فوائد حيوية عديدة ويمكن تمييز هذه الفوائد في النباتات، فالمعروف أنّ النباتات لا تمتلك مضخّات أو عضلات أو ما شابه ذلك، إذن كيف تستطيع ضخّ الماء الموجود في التّربة أمتارا عديدة إلى الأعلى؟ الجواب هو:بواسطة الشّد السّطحي، فجذور النباتات والقنوات الدّقيقة الموجودة فيها خلقت فيها كي تستفيد من الشد السطحي للماء، وكلّما اتجهت هذه القنوات نحو الأعلى ضاق قطرها وبالتالي يستطيع الماء أن يصعد إلى الأعلى، وعملية صعود الماء إلى الأعلى تعتمد أساسا على القوة العالية للشّد السّطحي للماء، ولو كان الشد السطحي للماء كمثيلاته من باقي السوائل لاستحال عيش النباتات الموجودة على اليابسة، وهذا يعني استحالة وجود الإنسان في وسط خال من النباتات.

و هناك تأثير آخر لقوة الشد السطحي للماء وهو تشقق الصّخور، فالماء يستطيع أن يلج في أعماق الشقوق الموجودة في هذه الصخور نتيجة قوة الشد هذه الكبيرة له. وعند انخفاض درجات الحرارة يتجمد الماء وعند تجمّده يزداد حجما ويؤدي بمرور الوقت إلى تشقق الصخور. إنّ هذه العملية مفيدة في انتقال المعادن والأملاح الموجودة في هذه الصخور إلى التربة وكذلك الحفاظ على التّربة وزيادة كميتها.

معجزة الماء الكيمياوية

مثلما يمتلك الماء خواصّا فيزيائية مهمّة ومؤثّرة في الحياة فإنّه يمتلك خواصّا كيمائيّة بنفس الدّرجة من الأهمية والتأثير، وعلى رأس هذه الخواص قدرته على إذابة المواد القابلة لذلك، فمعظم المواد يمكن إذابتها فيه بصورة جيدة. إنّ هذه الخاصّية مهمّة جدّا في الحياة، فالأملاح والمعادن المذابة في الماء يتمّ انتقالها عبر الأنهار إلى البحار، وأثبتت الحسابات أنّ ما مجموعه 5 مليارات طن من الأملاح والمعادن يتمّ نقلها إلى البحار بهذه الطّريقة وأنّ هذه المواد تعتبر ضرورية للحياة في الماء.

ومعروف عن الماء أنه يعتبر عاملا مساعدا جدّا في حدوث معظم التفاعلات الكيمائيّة، أمّا الخاصية الكيمائيّة الأخرى للماء فهي ميله إلى التفاعل كيماويا بأحسن مستوى ممكن، فالماء لا يسلك سلوك الحامض أي أنّه لا يتفاعل بشدّة ولا يكون خاملا مثل غاز الأركون، وكما يقول مايكل دينتون ‘’إنّ مستوى التفاعل الكيماوي للماء يتصف بكونه ملائما جدّا ليلعب دورا مهما جدّا بيولوجيا وجيولوجيا ‘’ 46

وإن ملاءمة خواص الماء الكيمائيّة لدوره المهمّ في الحياة يتم إثباتها بعد كل بحث جديد يتم التوصل من خلاله إلى معلومات حديثة .

ويعلق هارولد موروتيز prof. Harold Morowitz أستاذ الفيزياء البيولوجية في جامعة بيل على هذا الحدث المهم قائلا :

‘’حدثت تطورات في السنوات الأخيرة أفادت في معرفة خاصية جديدة للماء لم تكن معروفة، وهذه الخاصية تتمثل فـي’’ التوصيل البروتوني ‘’ وهي توجد لدى الماء فقط ولها أهمية استثنائية من ناحيتين الأولى نقل الطاقة الحيوية والثانية معرفة أصل الحياة. وكلما ازددنا معرفة بأسرار الطبيعة ازداد إعجابنا بمدى ملائمتها لحياتنا. 47

درجة انسيابية الماء موضوعة بمعيار معين

عندما ننطق بكلمة سائل فأوّل ما يتبادر إلى أذهاننا وجود شيء ينساب أو يسيل، ولكنّ الواقع أن السّوائل تختلف فيما بينها من جهة الانسيابية، فمثلا هناك اختلاف واضح في انسيابية كل منّ القطران والكليسيرين وزيت الزّيتون وحامض الكبريتيك، ولو قورنت هذه السوائل مع الماء لظهرت فوارق واضحة فالماء أكثر انسيابية بـ 10مليارات مرة من القطران و 1000مرة من الكليسيرين و 100مرة من زيت الزيتون و 25 مرة من حامض الكبريتيك .

ونستنتج من المقارنة السّابقة أنّ الماء يمتلك انسيابية عالية، ولو استثنينا الهيدروجين السّائل والأثير اللّذين يوجدان كغاز في الظروف الاعتيادية فإنّ الماء يعتبر ذا قيمة انسيابية أعلى من بين كل السوائل الأخرى .

ولكن ما أهمية الانسيابية العالية للماء بالنسبة إلينا ؟ ولو كان هذا السّائل الحياتي ذا قيمة انسيابية أكبر أو أقل مماّ هو عليه الآن فكيف كان سينعكس تأثيره على حياتنا كبشر؟ ويجيب البروفيسور دينتون عن هذه الأسئلة قائلا :

‘’لو كانت انسيابيته أكبر لفقد ميزة كونه المادة الأساسية للحياة، فمثلا لو كانت انسيابيته بقدر انسيابية الهيدروجين السائل لأبدت أجسام الكائنات الحية رد فعل عنيف تجاه الأخطار الخارجية ...فضلا عن عجز الماء في تشكيل الوسط المناسب للتّراكيب الجزيئة وبالتالي عجز الخلية الحية عن المحافظة على بنائها الحسّاس...


تحمل درجة انسيابية الماء قيمة وأهمية كبيرة للأحياء. ولو كانت هذه القيمة أقل مما عليها الآن بقليل لاستحال نقل الدم بواسطة الشعيرات الدّموية .


يحتوي الدم على الماء بنسبة 95% ولو كانت قيمة انسيابية الماء مماثلة لقيمتها في العسل أو القطران لعجز القلب عن ضخ الدم بهذه الانسيابية .

ومن جانب آخر لو كانت انسيابية الماء أقل مما هي عليه لعجزت جميع الجزيئات العملاقة عن الحركة مثل البروتينيات والأنزيمات والعضويات المتحركة مثل الماتيوكوندريا، وبنفس الشكل يصبح انقسام الخلية مستحيلا، كذلك تتوقف جميع النشاطات الحيوية للخلية وبالتالي تتوقف الحياة، وتعجز الخلايا أثناء الطور الجنيني داخل رحم الأم عن الحركة والزّحف، أمّا أجنة الكائنات الحية الراقية فتعجز تماما عن النمو. 48

فالانسيابية العالية للماء ذات أهمية حياتية بالنسبة إلينا، فلو انخفضت هذه الانسيابية قليلا لاستحال انتقال الدم عبر الأوعية الشعرية، فعلى سبيل المثال يعجز الدم عن الحركة خلال الأوعية الشعرية الكبدية ذات الطبيعة المتشابكة جدا. فالانسيابية ليست ذات أهمية على مستوى الخلية فقط وإنما على مستوى جهاز الدوران . و هناك كائنات حية صغيرة الحجم ويقدر حجمها بأكبر من ربع المليمتر وبالرغم من هذا الصغر فإنها تمتلك جهازا مركزيا للدّوران لأنّ الأوكسجين والمواد الغذائية لا يتم انتقالهما من وإلى جسم الكائن الحي بعد هذا الحجم بواسطة الانتشار لاستحالته. فالجسم أصبح يمتلك خلايا عديدة وأصبحت هناك حاجة إلى القنوات لملء هذه الخلايا بالأكسيجين والطاقة المأخوذة من الوسط الخارجي. كذلك الفضلات لا يمكن طرحها إلا عبر قنوات تجميعية، فهذه القنوات تدعى بالأوعية الدموية . والقلب يعتبر المضخة اللاّزمة لتحقيق الانسيابية داخل الأوعية. والسائل الذي ينساب داخل هذه الأوعية هو الدم. ويتكون أساسا من الماء ]بعد ترشيح الخلايا والبروتينيات والهرمونات من الدّم يبقى سائل يدعى بــ البلازما ويتكون من الماء بنسبة 95% .

لهذا السبب تعتبر انسيابية الماء مهمة جدّا لعمل جهاز الدوران بكفاءة. وعلى سبيل المثال لو أصبحت انسيابية الماء بقدر انسيابية القطران لعجز القلب عن ضخه بالطبع. وحتى لو أصبحت هذه الانسيابية بقدر انسيابية زيت الزيتون أي أكبر بـ 100 مليون مرة من انسيابية القطران، فبالرغم من ضخ القلب لهذا السائل المفترض فإنه يعاني في الوصول إلى الأوعية الشعرية المنتشرة في معظم أنحاء الجسم أو يعاني من صعوبة السّيولة داخل هذه الأوعية.

و دعونا نتفحص موضوع الأوعية الشعرية عن كثب. تقوم الأوعية الشعرية بحمل الأوكسجين والهرمون والطاقة والمواد الغذائية إلى كل خلية من خلايا الجسم في كافة أنحائه، ولأجل استفادة الخلية الجسمية الحية مما يحمله الوعاء الشعري يجب أن تكون على مسافة لا تزيد عن 50 مايكرون، {المايكرون = 1000/1 مليمتر} والخلايا الواقعة أبعد من هذه المسافة ستفشل في الحصول على الغذاء وتموت حتما، ولهذا السبب بالذات خلق جسم الإنسان بكيفية تجعل من الأوعية الشعرية كشبكة تشمل كافة أنحاء الجسد، ويوجد في جسم الإنسان خمسة مليار وعاء شعري مجموع أطوالها 950كلم، وفي بعض اللبائن توجد ثلاثة آلاف وعاء شعري في السنتيمتر المربع الواحد من العضلة، ولو وضعنا عشرة آلاف وعاء شعري لجسم الإنسان إلى جانب بعضها البعض لاتخذت شكلا سمكه يكاد يقرب من سمك رأس قلم الرصاص، وقطر هذه الأوعية الشعرية تتراوح بين 3-5مايكرون. وهذا يعني 0,03أو 0,05 المليمتر. 49

والأمر المنطقي الذي يجب استدراكه هنا هو أنه لولا الانسيابية المثلى للماء لما استطاع الدم أن يسيل داخل الأوعية الشعرية الضيقة جدا. ويشرح البروفيسور مايكل دينتون الصعوبة الكبيرة التي يواجهها أي جهاز للدوران في حالة هبوط وقلة انسيابية الماء قليلا عما هي علية قائلا :

‘’إنّ الجهاز الدّموي الشّعري لا يستطيع إنجاز مهامّه إلاّ إذا كانت انسيابيّة السّائل الذي يتمّ ضخّه داخلها عالية، فهذه الانسيابية العالية مهمة جدّا لأنّ حركة السائل داخل الوعاء الشعري تتناسب طرديا مع انسيابية ذلك السّائل ...وهكذا يظهر بوضوح بأنه لو كانت انسيابية الماء أكبر بعدة مرات فقط لظهرت الحاجة إلى مضخة أقوي كي ينساب الدم داخل هذه الأوعية الشعرية ولعجز جهاز الدّوران الشعري عن أداء مهامه حتما، ولو كانت انسيابية الماء أقل قليلا عما هي عليه لكان من الضروري أن يكون قطر أصغر وعاء شعري 10ميكرون بدلا من 3 ميكرون ولأصبحت هذه الأوعية الشعرية تغطي نسيجا مثل النسيج العضلي بكامله لكي تمده بالأكسيجين والكلوكوز الضروريين ، وواضح من هذه الحالة استحالة تصميم أشكال الأجسام أو تعاني هذه الأشكال من تحديد ضيق للغاية ضمن حدود لا يمكن تصورها، لهذه الأسباب كلها ينبغي على الماء أن يتصف بقيمة معينة للانسيابية هي قيمتها المعروفة كي يمكن تسميته بالمادة الأساسية للحياة. 50

وبتعبير آخر فإن الانسيابية الخاصة بالماء كباقي خواصه تحمل القيمة المثلى والمناسبة للحياة، وهناك تباين واضح في الانسيابية الخاصة للسوائل المختلفة وهذا التباين يبلغ أحيانا مليارات الأضعاف، ومن بين هذه المليارات من القيم المختلفة للانسيابية نرى أن الماء فقط هو الذي يحمل القيمة المثلى للانسيابية المناسبة للحياة .

الحدود الحرارية اللازمة لتكون الرّوابط الذريةالمهمة للحياة هي نفسها الحدود الحرارية لكوكب الأرض

هناك أواصر متعددة الأنواع تربط الذرات والجزيئات بعضها ببعض، وتوجد ثلاثة أنواع من الأواصر: الأيونية و التسّاهمية والأواصر الضعيفة، و الآصرة التساهمية هي الآصرة التي تمسك الذرات ببعضها في الأحماض الأمينية والتي تشكل بدورها الحجر الأساس في بناء البروتينات. أمّا الأواصر الضعيفة فهي الأواصر المسؤولة عن ربط الأحماض الأمينية ببعضها مشكلة سلسلة مترابطة ثلاثية الأبعاد ، أي لولا وجود الأواصر الضعيفة لما استطاعت الأحماض الأمينية أن ترتبط فيما بينها ولما ظهرت جزيئات البروتينات الثلاثية الأبعاد وذات الفعالية العالية، وفي وسط يفتقر إلى البروتين لا يمكن الحديث عن أي معالم للحياة .

والغريب في الأمر أنّ الحدود الحرارية اللازمة لتشكيل الأواصر التساهمية والضعيفة هي نفسها الحدود الحرارية لكوكب الأرض، علما أنّ الآصرة التّساهمية تختلف شكلا وخواصا عن الأواصر الضعيفة اختلافا كليا، ولا يوجد أي عامل أو سبب طبيعي يجعل كليهما يحتاجان إلى حرارة التكوين نفسها. وبالرغم من ذلك فإنّ كلا الآصرتين لا تتشكلان إلا في الحدود الحرارية المعروفة لكوكب الأرض. ولو كانت الأواصر التساهمية تتشكل وتؤثر في حدود حرارية تختلف عنها في الأواصر الضعيفة لاستحال تكون البروتينات في أجسام الكائنات الحية لأنّ تكوّن البروتين متوقّف على تشكّل هاتين الآصرتين وفي آن واحد، أي أنّ الآصرة التّساهمية التي تتشكل بواسطتها الأحماض الأمينية لو اختلفت في الحدود الحرارية التي تؤثر فيها عنها في الأواصر الضعيفة لتكونت سلسلة مستقيمة من الأحماض الأمينية دون أن تأخذ شكلا ثلاثي الأبعاد والذي يكسب البروتين فعاليته المعروفة، والشيء نفسه يذكر بالنسبة للأواصر الضعيفة، فلو انعدم التجانس الحراري بينهما وبين الآصرة التساهمية لما تشكلت الأحماض الأمينية أصلا ولما ظهر شيء يدعى بروتين .

إنّ هذه الحقيقة العلمية تثبت لنا وجود علاقة انسجام واضحة بين الذرة التي تعتبر المادة الخام للحياة وبين الدنيا التي تعتبر الوسط الذي تنشأ عليه الحياة. ويتناول البروفيسور مايكل دينتون هذه الحقيقة العلمية في كتابه ‘’مصير الطبيعة ‘’ قائلا :

‘’من ضمن الحدود والقيم الحرارية الشاسعة جدا للكون هناك جزء ضئيل جدا من هذه القيم يوفر لنا ثلاثة عوامل حياتية مهمة، الأول سائل يدعى الماء، الثاني مركبات عضوية كثيرة ومتنوعة جدا وذات استقرارية خارقة و الثّالث وجود أواصر ضعيفة تربط الجزيئات المعقدة وتجعل أشكالها الثلاثية الأبعاد ذات استقرارية عالية.51

وكما ذكر دينتون فإنّ جميع الأواصر الكيمائيّة والفيزيائيّة الضّرورية للحياة لا يمكن أن تؤثر أو تفعل فعلها إلا في حدود حرارية معينة وضيقة، وهذه الحدود الحرارية الضيقة لا تتوفر إلا في كوكب الأرض من بين أجرام الكون كلها.

تتميز ملايين البروتينات الموجودة في الخلية الحية الواحدة بتعقيد بالغ في التركيب ولا يمكن للمصادفة أن تؤدي إلى ظهور هذه البروتينيات ولا حتى بروتين واحد منها.

عامل الذوبان للأوكسجين وقيمته المثلى واللازمة للحياة

إنّ قابلية أجسامنا على الاستفادة من عنصر الأكسيجين تنبع من خاصية ذوبانه في الماء، فعندما نتنفس يدخل الأكسيجين إلى الرئتين ويذوب فورا في الدم، ويقوم بروتين خاص في الدم يدعى ‘’الهيموجلوبين ‘’ بالتقاط جزيئات الأكسيجين المذابة ويحملها إلى الخلايا، وتقوم الخلايا بواسطة أنزيمات مختلفة باستخدام هذا الأكسيجين بحرق مواد كربونية تدعى ATP لإنتاج الطاقة.

إن الأحياء كافة تقوم بالحصول على الطاقة بهذه الوسيلة ولكن العملية برمتها تتوقف على قابلية ذوبان الأوكسيجين، فلو لم يكن الأكسيجين يذوب بالدرجة الكافية لكانت نسبته في الدم قليلة وبالتالي تضعف كمية الطاقة التي تنتجها الخلية، أمّا لو كان يذوب بدرجة عالية فإن نسبته ترتفع في الدم مؤدية إلى ظاهرة تدعى بـ’’ التسمم الأوكسيدي ‘’.

الغرابة اللاّفتة للانتباه في هذه الحقيقة العلمية تكمن في وجود مليون قيمة مختلفة لنسبة الذوبان الخاصة بمختلف أنواع الغازات، أي أن الفرق بين نسبة الذوبان لأكثر الغازات ذوبانا في الماء وبين أقلها ذوبانا في الماء يعادل مليون قيمة عددية، ويكاد ينعدم أي تطابق في هذه القيمة للغازات المختلفة. فعلى سبيل المثال يذوب ثاني أكسيد الكربون في الماء أكثر من عشرين ضعف ذوبان الأكسيجين فيه، وعامل الذوبان للأكسيجين هو الأنسب من بين العديد من الغازات المختلفة لحياة الإنسان.

ماذا سيحصل يا ترى لو كان عامل الذوبان للأكسيجين أقل مما هو عليه ؟

لنر ما كان سيحصل لو كان الأكسيجين يذوب في الماء وبالتالي في الدم بدرجة أقلّ ممّا هو عليه، فإن مقدارا قليلا جدّا من هذا الغاز سيختلط بالدّم أي تقلّ كميّته التي تصل إلى الخلايا وهذا يؤدي إلى صعوبة عيش كائن حيّ له فعاليات حيوية عديدة ومتشابكة كالإنسان، ومهما حاول أن يزيد من وتيرة التنفس فإن كمية الأكسيجين التي تصل إلى الخلايا تكون قليلة، وشيئا فشيئا يتعرض الإنسان إلى الاختناق.

ولو كان الأكسيجين أكثر ذوبانا في الماء عما هو عليه فتظهر أعراض التسمّم الأوكسيدي كما سبق القول، و في الواقع فإنّ غاز الأكسيجين خطير جدّا لأنه لو استنشق بكميات تفوق الحدود الصحية فإنه يؤثر تأثيرات خطيرة قد تكون مميتة، فلو زادت نسبة الأكسيجين في الدم فإنّه يتفاعل مع الماء الموجود فيه مكونا مركبات كيماوية غاية في الخطورة. ويوجد نظام خاص للسيطرة على نسبة الأكسيجين في الجسم يتألف من عدة أنزيمات. ولكن هذا النظام الخاص لا يعمل إلا في حدود معينة ولو تخطّت نسبة الأكسيجين هذه الحدود لفشل هذا النظام في السيطرة على نسبة الغاز في الجسم ويبقى الجسم معرضا أكثر للخطر كلما استمرت عملية التنفس. ويقول الكيميائي اروين فريدويج Fridovich Irwin بهذا الصدد:

‘’هنالك كمين غريب جدا في طريق جميع الكائنات الحية التي تقوم بعملية التنفس. فالأكسيجين الذي تحصل عليه عن طريق التنفس والذي يعتبر ضروريا للحياة له ميزة سلبية تتمثل في قدرته على إحداث تسمّم بدرجة خطيرة و لا تكون هذه الكائنات بمنأى عن هذا التسّمم إلاّ بواسطة آلية دقيقة جدا للسيطرة على نسبته في الدم’’.52

إنّ هذه الآلية الدقيقة جدا تقوم بوقاية جسم الكائن الحي من خطرين أحدهما التسمم الأكسيدي أو النّسبة المفرطة للأكسيجين في الدم والثاني الاختناق نتيجة قلة نسبته المعتادة وهذه الآلية تعتمد على عامل الذّوبان لهذا الغاز في الماء وعلى مجموعة من الأنزيمات الفعالة في الجسم. وبإيجاز فإنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الهواء الذي نتنفسه وخلق الأجهزة التي تمكننا من تنفس الهواء على أفضل صورة وأتم انسجام

تكملة الموضوع

http://antishobhat.blogspot.com/2012/10/o3.html

هناك تعليق واحد:

  1. مدونة رائعة اخي
    اتمنى لك التوفيق

    مي
    http://knowledge0world.blogspot.com/

    ردحذف