كتاب حقيقة الخلق ونظرية التطور لفتح الله كولن


كتاب حقيقة الخلق ونظرية التطور لفتح الله كولن



وليس يظلم وللب جذوة





مُقتطفات من أقواله:


الابتعاد عن العلوم الوضعية بحجة أنها تؤدي إلى الإلحاد تصرفٌ صبياني. أما النظر إليها وكأنها تعادي الدين فهو حكم مسبق وجهل مطبق.

تعرّف إلى ذاتك، وبنورها استنر، فإن عرفتها عرفتَ ربك.. أما سيّؤو الحظ، فلا أعماقَهم لمسوا، ولا جوهرَهم أدركوا، ولا ربَّهم عرفوا... مثلهم كمثل حمّال على ظهره كنـز ينوء بحمله لكنه لا يعرف قيمة ما يحمله... ففقيرًا يبقى، وتعيسا يظل، وشقيا يموت.




لو يدرك الشاب فعل الزمن في هدمه وتجريده مما يتباهى به، لَسارع يفتش عمّن يأخذ بيده نحو عالَم لا يشيخ فيه ولا يفنى، بل يبقى خالدا مخلّدا





قالوا عنه:



كن كما تشاء في أي درجة من درجات الحداثة والتعليم، فلن يحول ذلك بينك وبين الإيمان والتسليم... أظن هذا ما يدعو إليه الأستاذ "كُولن". (إحسان مسعود- مجلة/ Prospect إنجلترة)



نعُود لموضوعنا الأساس كتابه حقيقة الخلق ونظرية التطور، "تستند محتويات هذا الكتيب إلى بعض مجالس السمر والحوار التي ضمت دائرة ضيقة من الأصدقاء والتي جرت في أواخر الستينات. أما عرض هذه المحتويات على الجمهور بشكل محاضرة فقد كان في السبعينات.كانت المعلومات والوثائق والمصادر حول هذا الموضوع قليلة في تلك الأيام، بل تكاد تكون معدومة. فإذا أضفت إلى هذا قصوري الشخصي توضحت معالم هذا الكتيب.لقد كان من رأيي ألا ينشر مثل هذا الكتيب في هذه الأيام التي نشر فيها العديد من الكتب القيمة حول هذا الموضوع بسبب نقص هذا الكتيب وعدم كفايته والذي لم يكتب إلا للاستجابة لحاجة ماسة في السابق. ولكن عندما قام رفاقي في الفكر والدعوة -الذين أحترم آراءهم- بوضع هذا الكتيب الذي هو عبارة عن محاضرات سابقة أمامي بعد شذبها وتصحيحها لم أجد بدا من النـزول على آرائهم وقبول طبعه.هذا هو كل ما في الأمر بالنسبة لهذا الكتيب."



هذه كانت مقدمة المؤلف لكتابه برأيه هو، لكن يظلُ الكتابُ قيّماً فريداً من ناحية طرح الأفكار ومناقشتها، و يظل الأستاذ/ فتح الله كولن كما هو دائماً يُنير عقولنا بتعليقاته وانتقاداته، ويفتحُ لمخيلاتنا أبواباً تقودنا للتفكر والتدبر .



سأكتفي بعرض مدخل الكتاب، وسيكون الكتاب كله مُلحقاً للقراءة خلال رابط أدرجته في نهاية المدخل.


حقيقة الخلق ونظرية التطور

المدخل


للوجود وللحياة ولعالم الأحياء ولاسيما الإنسان -الذي يحتل موقعاً متميزاً فيه- نواح متعددة تشكل اساساً لعلوم مختلفة. وحتى لو تناولنا الإنسان وحده في هذا الموضوع رأينا ظهور علوم عديدة كالمورفولوجيا[1] والفيزيولوجيا[2] وعلم النفس وعلم الاجتماع والطب وعلم التربية، وعلوم أخرى عديدة. وكل علم من هذه العلوم اختصاص قائم بذاته وله مختصون متفرغون له. ولكن لا يوجد للكون بأجمعه ولا للإنسان ولا للأحياء متخصصون. لذا لم يكن في الإمكان حل المشكلات المتعلقة بالوجود وبالإنسان بهذه العلوم، أو قول الشيء النهائي والأمر الفصل فيها. لذا كانت هناك حاجة ماسة لمراكز متكاملة تستطيع تصنيف معلومات وأفكار لفهم الإنسان، وإنتاج التكنولوجيا ووضع النظريات والأفكار العامة التي تخاطب الشعور الجمعي وتكون في مستوى العصر وقادرة على احتضان جميع أموره وفتح الآفاق أمامه. وأنا أتوقع أن العديد من الكتب ستؤلف في هذا الخصوص في السنوات القادمة، وستطرح العديد من الأفكار البديلة في هذا الخصوص، كما ستشارك العديد من المراكز العلمية في هذا الأمر لتغذي وجهة النظر هذه وتثريها. وسيقوم آنذاك عدد من المفكرين ومن العلماء المحظوظين بكتابة قصة الوجود من جديد، وسيكتشفون كل شيء وكل الأحياء -ولا سيما الإنسان- من جديد، ليضعوا الحقائق حول مدى سعة عالم الإنسان أمام الأنظار، وليشرحوا بشكل واضح المواضيع التي تشكل قواعد العلم وأسسه.
وعلاوة على هذا نستطيع اليوم أن نقول بأن المختبرات الحديثة تقوم اليوم بفحص الأحياء بدقة غير مسبوقة. حتى أن المادة والجزيئة والخلية أصبحت معلومة بمقياس كبير، وبدت السوائل وجميع أجزاء الخلية حتى أصغرها وأدقها معروضة أمام الأنظار بفضل الأشعة السينية (أشعة أكس). كما قامت بعض المختبرات الحديثة وبعض مراكز البحوث بإلقاء الضوء ليس على التركيب المادي فقط لجزيئات البروتين بل على طبيعة الأواصر التي تربط هذه الجزيئات الكبيرة بعضها ببعض وطبيعة عمل الأنـزيمات التي تفرق وتركب هذه الجزيئات وتأثيرها، وكذلك القوانين السارية في الخلايا والروابط التي تربط الأنسجة التي تشكلها هذه الخلايا مع الأعضاء الداخلية، وطبيعة السوائل في الجسم كالدم والصفراء وعلاقاتها مع بيئتها، وكذلك تأثير المواد الكيمياوية على الجسم وعلى الشعور... كل هذه الأمور أصبحت معلومة ولو نسبياً.
ولكن على الرغم من هذا التقدم الذي يستحق كل تقدير في ساحة العلم، فإن من غير الممكن القول بوجود مثل هذا التقدم في ساحة العلم أو في المراكز العلمية في تركيا أو في أي ساحة أخرى منذ عهد التنظيمات حتى الآن. فبدلاً من البحث العلمي نرى تقليداً أعمى، وبدلاً من التدقيق العلمي نرى أننا في عهد من شعارات رخيصة مرفوعة تأخذ مكان العلم. ولا شك أن الأجيال القادمة ستذكر عهدنا هذا بكثير من الأسف. ذلك لأن الوجود قُدِّم في هذا العهد وكأنه عبارة عن وسط من الفوضى، وكأن الأشياء لعبة بيد الصدف العمياء تطوح بها ذات اليمين وذات الشمال، وكأن الأحياء لقمة بسيطة وسائغة بين الأسنان الوحشية للـ"الانتخاب الطبيعي". أما الإنسان فقد هوي بمكانته وجُعل في مقعد متفرج نكد الحظ يتفرج على حلبة الموت، وحكم عليه أن يرى ويسمع ويعيش ما يجري أمامه. بينما لو تم النظر من زاوية أخرى لكان في الإمكان مشاهدة حقيقة وجود تساند وتعاون في كل جزء من أجزاء هذا الكون، ووجود نظام وتناغم دقيق فيه، ولظهر أن كل شيء قد خطط لهدف معين، ولغاية محددة، وأن كل شيء مرتب ككتاب وكمعرض رائع وكامل يذهل العقول.
ولسنا هنا في معرض محاكمة النظرة الحالية الخاطئة ولا التحري عن أسبابها. ولكن من المفيد التأكيد على بعض الأمور: أولاً إن الوسط العلمي عندنا في عهد معين قد جُرَّ إلى وسط من الفوضى، ورُبط بمحور معين بحيث إن العديد من مراكز البحوث العلمية والمختبرات انجرّت دائماً وراء سؤال: "كيف؟" ولم يلتفت الباحثون[3] إلى أسئلة من نوع: "لماذا؟" وأنشأ نظام التعليم أجيالاً لا تفكر إلا في الإجابة على "كيف؟" ولا تفكر في الإجابة على "لماذا؟" أو "من؟". لذا فلم يظهر من هذه الأجيال أي مفكر أو عالم على المستوى العالمي طوال هذه العهود.
أجل!.. كم عالم استطعنا تنشئتهم لكي يستطيعوا اكتشاف أخطاء العلماء الغربيين؟ فمثلاً كم منهم وجد في نفسه الشجاعة لكي يوضح خطأ نظرية دارون ونقصها وجوانبها المشوهة، وأنها -مثلها مثل النظريات الأخرى- يمكن مناقشتها؟ وكم منهم استطاع تجديد فكرة أن الإنسان هو أشرف المخلوقات؟ تجديد هذه الفكرة وتطويرها... مثلاً الإشارة إلى أن الإنسان بالإضافة إلى أنه يملك أجهزة مادية كالعين والمخ والأنف والأذن وأجهزة الدورة الدموية وأجهزة الإفراغ (البول والبراز)، فهو يملك السمع والبصر والحس ووسائل اتصالات مختلفة مع الوجود، ويملك شوقاً لمعرفة ما وراء أستار هذا العالم... من أشار إلى هذا واستطاع أن يضع الإنسان في إطاره الحقيقي؟ وعلاوة على عدم إنجاز هذا فقد تم وضع العلم كصنم معبود تجاه الدين، وضُحِّي به على مذبح النظرة الأيدولوجية، فلم يستطع الخروج عن الإطار الضيق للفلسفة الوضعية للقرن التاسع عشر.
والذي يدعو إلى الأسف والأسى أنه نتيجة لكل هذا فقد أقيم علم الأحياء (البيولوجيا) على نظريات خيالية لم تتم البرهنة عليها، وعلى رأس هذه النظريات الخيالية تأتي نظرية التطور دون شك. صحيح أن تناول نظرية التطور والحديث والكتابة حولها ليس من عمل شخص مثلي له مجال مختلف. ولكن حتى يجتمع مختص بالجينات ومختص بالكيمياء الحياتية (بيوكيمياء) ومختص بالبالنتولوجيا[4] مع عالم الإلهيات يتناول الموضوع من الناحية الدينية كمختصّين يوضحون هذا الموضوع على الساحة التركية، بل وعلى الساحة العالمية إن كانت هناك حاجة. الموضوع الذي يدور حلو النقاش في المحافل العلمية منذ مدة طويلة وحتى يُظهروا الحقيقة كاملة... إلى ذلك الحين يكون من حقي ومن حق أمثالي تناول هذا الموضوع بإسم الحق. لقد أصبح الكثيرون يدافعون عن هذا الموضوع ليس باسم العلم بل باسم الأيدولوجية، حتى كاد يصبح مجرد مناقشته ذنبا وجريمة.
من جهة أخرى فإننا إن وضعنا جانبا التساؤل حول وجود أو عدم وجود علماء دين عندنا يستطيعون تناول هذا الموضوع ومناقشته، فإن التربية والتعليم الديني عندنا لم يحقق بعد الحلم الذي ساور العديدين منذ قرن تقريبا، ولم يصل إلى المستوى اللائق ولم يشمل دراسة العلوم الوضعية أو في الأقل دراسة مبادئها الأساسية. وهذه حقيقة مؤسفة ومحزنة تقف عقبة أمامنا. لذا ففي مثل هذا الوضع فإن معظم المسائل التي سأتناولها هنا مع كونها خارجة عن ساحتي، إلا أنني أرى أن من واجبي تدقيق هذه المسألة -التي أصبحت تقف مثل جدار عال حائلاً أمام الإيمان- على قدر طاقتي. علماً بأنني أدرك جيداً مدى صعوبة حمل هذه المسؤولية وعظمها. والحقيقة أن الذي قادني لهذا الأمر -الذي أرجو من المختصين فيه الموضوع أن يسامحوني- ليس هو إلا هو بعث الهمة والعزم عند المختصين. فكم أتمنى أن يقوموا بحمل هذا العبء وإيضاح هذا الموضوع بكل جوانبه وبكل أعماقه واظهار الحقيقة كاملة للأجيال التي داهمت الشكوك أذهانها وأفكارها واغتيل إيمانها منذ ما يزيد على قرن كامل.
ودعوني أعترف فأقول بأنني كنت أفضل -بدلاً من التعامل مع هذا الموضوع وبذل الجهد فيه- أن أقوم بشرح الدساتير الإسلامية الأساسية التي سكنت قلبي وأنارته على الدوام، وبيان الأوصاف التي يجب أن يتحلى بها الجيل الذي سينقذ الإنسانية. لأنني أعتقد أن من الأفضل الكتابة حول الأمور الإيجابية لكونها تثير في قلوب المؤمنين انفعالاً أكثر. والذي يحيرني ويزيدني عجباً وأسفاً بعض التصريحات والبيانات التي تتناقض مع معاني العديد من الآيات القرآنية المحكمة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها حول موضوع الخلق والتي نسمعها من العديد من الناس... من المثقفين ومن غير المثقفين... من خريجي الجامعات وممن هم خارج الجامعات... بل حتى من بعض علماء الدين الذين يحاولون بتأويل بعيد إقامة صلة بين نظرية التطور لدارون وبين معاني الآيات القرآنية ومعاني الأحاديث الشريفة.
قبل قرن من الزمان طرح سؤال على العلامة حسين الجسر[5] -الذي أكنّ له احتراماً كبيراً- حول هذا الموضوع فأجاب:
"إن هذه المسألة لا تزال في طور النظرية. ولكن إن تمت البرهنة عليها في المستقبل، فإننا سنقوم آنذاك بتوفيقها مع الآيات القرآنية".[6]
ومهما كان احترامي كبيراً لهذا العلامة الكبير فإنني لا أستطيع أن أوافقه هنا ولا أن أوافق من يفكرون مثله. لأنه من المستحيل التوفيق بين أفكار دارون ونظرية التطور مع الآيات القرآنية أبداً، لأن دارون يقول بأن الحياة نشأت بالمصادفات العشوائية نتيجة عدة عوامل. بينما الإحياء والإماتة فعلان خاصان بالله تعالى. وحتى لو كان في الإمكان البحث عن أسباب مادية لبدايات هذين الفعلين، فإن النتيجة -ولا سيما في موضوع نفخ الحياة- هي فوق جميع الأسباب تماماً. فنفخ الحياة إجراء مباشر دون حجاب وإلهي محض غير متعلق بأي سبب. وبما أنه لا يمكن تفسير الحياة بأي سبب مادي، لذا كان من غير الممكن أن تتجاوز الداروينية مرحلة النظرية، كما كان من المستحيل التأليف بينها وبين الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وهذا هو أحد أسباب قيامي بتناول هذه النظرية.
نظرية التطور لا يمكن حصرها بـ"دارون" ولا بـ"لامارك". فهي من جهة أقدم منهما وطرحت قبلهما بعدة عصور، ومن جهة أخرى فهناك أنصار لـ"الداروينية الحديثة" في عصرنا حيث طرحوا نظريات جديدة في تأييد وتقوية نظرية دارون. وعندما تفشل نظرية من هذه النظريات يأتون بأخرى. ومع الأسف فإن هذه النظريات -التي لم يتم إثباتها ولا يمكن إثباتها- تدرس في جميع المدارس المتوسطة والثانوية وحتى الصفوف الأخيرة في الجامعات، وفي جميع المؤسسات التعليمية والتربوية والعلمية وكأنها حقائق علمية. وهنا أتمنى من المولى تعالى -وإن لم يكن هذا متعلقاً بموضوعنا مباشرة- أن يوفق الأجيال السعيدة القادمة لشرح جميع جوانب هذا الموضوع -والمواضيع الأخرى كذلك- ولا تشغل المدارس بنظريات يستحيل البرهنة عليها.
وفي القرن العشرين تمت محاولة نقل نظرية التطور إلى المختبرات في محاولة لإثباتها بـ "الطفرات Mutations". لذا سنقوم بتناول هذا الموضوع في إطار بحث الداروينية، والداروينية الجديدة، والآيات القرآنية المحكمة والأحاديث النبوية الصحيحة (على صاحبها ألف صلاة وسلام) التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها والتي تناولت مسألة الخلق.
الهوامش
[1] مورفولوجيا Morphology: علم التشكل: فرع من علم الأحياء يبحث في شكل الحيوانات والنباتات وبنيتهما. (المترجم)
[2] فيزيولوجيا Phyisiology : علم يتناول دراسة وظائف الأعضاء. (المترجم)
[3] استعملتُ كلمة: "الباحثون"، ولم أستعمل كلمة "العالمون" عن قصد. (المترجم)
[4] البالنتولوجيا Paleontology: علم المتحجرات، يبحث في أشكال الحياة للأحياء من النباتات والحيوانات في العهود الجيولوجية الماضية. (المترجم)
[5] العلامة حسين الجسر: هو جد المفتي الأسبق في لبنان المرحوم نديم الجسر صاحب الكتاب المشهور "قصة الإيمان". وقد تناول العلامة حسين الجسر موضوع نظرية التطور في كتابه المشهور "الرسالة الحميدية". وسمي كذلك لأنه ألفه وأهداه إلى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني وتناول الرد على شبهات الملحدين، وهو كتاب نفيس وحاز على اعجاب السلطان والعلماء. (المترجم)
[6] انظر: قصة الإيمان لنديم الجسر، ص 204-215.


لقراءة الكتاب كاملاً







النفس والعالم
من كتاب العقيدة الإسلامية وأسسها
من تأليف الشيخ: عبد الرحمن حبنكة الميداني -رحمه الله-
"جزاه الله خير على ما قدم "

(1)
قوة الإنسان الإدراكية

في داخل الإنسان قوة إدراكية كبيرة ولكن مُدرًكًاتها لا تنبع من داخلها وإنما تأتيها من العالم الخارجي عنها. ولهذه القوة الإدراكية في الإنسان منافذ تطل منها على العالم الخارجي ألا وهي (الحواس الخمس): حاسة البصر، وحاسة السمع، وحاسة الشم، وحاسة الذوق، وحاسة اللمس. كما لها صلات أخرى تطل منها على عالم النفس وهي تتمثل بحاسة الانفعالات: كالرضا والغضب، والحب والكراهية، وحاسة الأم، وحاسة التوازن، وحاسة الشهوات ...الخ

فبمقدار ما تنقل هذه الحواس من حقائق للقوة الإدراكية تستطيع أن تتخيل وتدرك، وتحلل وتركّب، وتستنتج القواعد العامة، وتقيس الأشباه والنظائر على بعضها، ولا تستطيع شيئاً غير ذلك ولا أكثر من ذلك.

فالعميان مثلاً الذين يولدون وهم فاقدو الأبصار، مهما أوتوا من الذكاء لا يستطيعون أن يتصوروا في مخيلتهم شيئاً عن الألوان مهما حاولنا أن نقرب لهم ذلك بالتشبيه والتمثيل، حيث لم يسبق لهم أن اتصلوا بإدراك حقيقة أي لون من الألوان عن طريق البصر.

فلو قلت لهم: أبيض، أحمر، أخضر، أزرق، أو نحو ذلك، لم يستطيعوا أن يتخيلوا صورة لهذه الألوان أبداً ما لم تنفتح نافذة أبصارهم على الوجود فيروا الأشياء الملونة فعلاً معروضة أمامهم، وإذا ذاك يدركونها ويتخيلون أشباهها ونظائرها.

وكذلك الذين يولدون صماً لا يستطيعون أن يتخيلوا عن الأصوات شيئاً مهما أوتوا من الذكاء حتى تفتح نافذة أسماعهم على الوجود فيستمعوا إلى الأصوات.

ومثل ذلك الطفل الصغير قبل البلوغ مهما أوتي من نبوغ لا يستطيع أن يتصور شيئاً عن الغريزة الجنسية، ولا يزال في تكهنات غير صادقة عنها حتى تدب فيه الغريزة بشكلها المركَّز، وكل إنسان –رجلاً كان أو امرأة- لابد أنّه مرًّ بهذه المرحلة بالذات فهو يسلّم بذلك دونما جدل. وهكذا سائر العواطف والانفعالات لا نستطيع أن ندرك حقيقتها ما لم نمرَّ بتجربة لها.

ونحن جميعاً لا نستطيع أن نتخيل طعماً من الطعوم لم يسبق لنا أن تذوقناه حتى نأتي به ونتذوقه فعلاً، وهكذا بقية الحواس في الإنسان.

ونستخلص مما سبق: أن النفس إنما تدرك الأشياء المنتشرة في هذا الكون الكبير عن طريق منافذها التي تطلُّ منها على العالم، ولولاها لم تدرك من الوجود الخارجي عنها شيئاً، ولبقيت في جهل كامل. وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة المسلَّم بها في قوله تعالى في سورة البقرة:

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴿١٧١﴾

وقوله تعالى في سورة الأنفال:

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّـهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴿٢٢﴾

(2)
النقص في أجهزة الحس لدينا

وما يدرينا لو مُنحنا بعض حواس أخرى –غير التي هي داخلة في تركيبنا- لا كتشفنا من حولنا أشياء كثيرة هي مُغَيَّبة الآن عنا لأننا لا نحس بها، إذ لا توجد لدينا الحاسة الخاصة التي نتمكن بوساطتها أن نكتشفها وندركها؟

أليس في هذه الأجهزة التي تدل على درجات الحرارة، وعلى درجات الضغوط الجوية، وعلى مقادير الكثافة –إلى غير ذلك من الأجهزة المختلفة- ما يشير إلى نقص كبير في حواسنا؟!

وقد كان من الممكن عقلاً أن نؤتى الحواس التي نُدرك بها ما تتحسس به هذه الأجهزة وتدل عليه.

كيف بنا لو أوتينا قوة الإحساس بالمعادن من وراء الحجب؟ فإذا مررنا بمعدن الحديد أحسسنا به دون أن نراه كما يحس به المغناطيس، أو بمعدن الذهب أو الفضة أو الماس أو نحوها، أحسسنا بها وهي في داخل جبالها، وفي طبقاتها من الأرض. ألسنا نكون أوسع في حواسنا مما نحن عليه الآن لو كان الأمر كذلك؟! أليس في المخلوقات الأخرى من الإحساسات ما ليس فينا؟

فما أكثر نقصنا! على أننا أكمل من غيرنا في الخلق!!

(3)
حدود الحواس

أما حواسنا التي هي السبيل الوحيد لنا للتعرف على الوجود من حولنا، فهي منافذ قصيرة المدى، محدودة كمّاً وكيفاً.

وقد اكتشف العلم الحديث أن الفضاء مملوء بالصور التي لا نستطيع أن نشاهدها بأبصارنا لفقد الانسجام والتوافق بين وضعها ووضع أبصارنا، كما أنه لو مملوء بالأصوات التي هي فوق مستوى سمعنا أو دون مستواه ونحن لا نسمع من ذلك شيئاً. كما استطاع العلم الحديث أن يكتشف الأجهزة الخاصة التي باستطاعتها التقاط الأصوات والصور من الجو، لتنقلها إلينا بعد أن تحولها إلى صور وأصوات تتناسب مع مستوى ووضع أسماعنا وأبصارنا.

فإذا جزمنا بأن مكاناً ما مثلاً لا يوجد في أي صوت –لا بشكل ظاهر ولا بشكل خفي- نعجز عن إدراكه، ثم جيء إلينا بالأجهزة القادرة على التقاط الصوت الخفي من نفس ذلك المكان، ثم أديرت بحيث تلتقط الصوت وتنقله لنا، لكان ذلك تكذيباً لنا فيما ادعينا سابقاً، وبرهان الحس الجديد المشاهد فيها أعظم شاهد. ولا يخفى ما يتضمنه الكشف الجديد من الإعلان عن جهلنا في جزمنا السابق، وفي إلقائنا الأقوال التي نؤكدها ونجزم بها جزافاً، دون روية أو عقل نافذ للحقيقة، بصير بالكوامن.

وحيث إن حواسنا –كما أوضحنا- محدودة كمّاً وكيفاً، فلا يصح لنا عقلاً ولا واقعاً أن ننكر أشياء من حقائق الكون –مهما كان نوعها- إنكاراً باتاً قطعياً لمجرد أننا لم نرها ولم نسمع صوتها ولم نتصل بها بأية حاسة من حواسنا، إلا أن نقيم دليلاً عقلياً وبرهاناً واضحاً يسلِّم به المنطق السليم.

أما الادعاء بأنها غير موجودة لأننا لم نحس بها فذلك أمر ترفضه العقول رفضاً باتاً، كيف لا ونحن نعلم حقاً –من ألوف التجارب اليومية- أن حواسنا محدودة كمّاً وكيفاً؟!

فمن حيث الكمُّ، متى تجاوز البعد المسافة التي تسمح لنا بالإحساس ظهر عجز حواسنا عن إدراك الأشياء.

فحاسة البصر مثلاً التي هي أبعد حواسنا مدى، كلما تباعد عنا الشيء المرئي صغر حجمه في أبصارنا، حتى تنعدم الرؤية تماماً بسبب البعد.

وكذلك حاسة السمع.

أما حاسة اللمس فشروطها أشد لأنها تحتاج إلى الالتصاق المباشر.

ومن حيث الكيف لا بد من مرافقة شروط خاصة لكل حاسة فينا حتى نستطيع بوساطتها إدراك الأشياء المعروضة على حسنا.

فحاسة البصر فينا مثلاً تحتاج في رؤية الأشياء إلى الضوء، ومتى انعدم الضوء وحل الظلام الدامس انعدمت الرؤية تماماً. وكذلك متى ما صغرت الأشياء المرئية إلى المراتب الدنيا في الصغر، لم نستطع رؤيتها إلا بوساطة المجاهر المكبرة إلى عشرات المرات أو ألوفها أو ملايينها.

وهنالك أشياء كثيرة جداً في واقعنا نؤمن بها إيماناً قوياً دون أن نتصل بها عن طريق الحواس اتصالاً مباشراً، وإنما نؤمن بها عن طريق الاستنتاج.

مثلاً: تسمع وأنت في داخل غرفتك طرقاً على الباب فتستنتج بلا تردد أن طارقاً ما يطرق الباب عليك دون أن تراه أو تسمع صوته، ذلك لأنك تعلم يقيناً أن الباب لا يدق نفسه بنفسه، فتقول: لابد أن يكون هنالك طارق طرقه.

ولابد أن ألفت النظر هنا إلى خرافة يتحامق بها بعض صغار العقول من الملحدين فيقولون: إننا لا نسلم بوجود أشياء لا نحس بها. كأنهم يتصورون أن حواسهم تستطيع أن تكشف كل شيء من حولهم! والعلم في كل يوم يكتشف أشياء جديدة هي من حولنا، بل هي داخله في تركيبنا، والناس في أجيالهم العديدة، وقرونهم المديدة، لم يحسوا منها طوال الزمان الغابر شيئاً. وكم يسهمون بأنفسهم بسبب إنكارهم لها –لو أنكروها- في الإعلان عن ضآلة أفهامهم، ومنتهى جهلهم، إنهم يبرهنون على أنفسهم في هذا بأنهم جهلاء، صغار العقول، مجازفون في إنكار حقائق الكون القائمة دلائلها فيه!!

وهذه قصة طريفة في هذا الباب:

لقد رد طفل صغير بإشراق فطرته على بعض هؤلاء المتحامقين من الملاحدة رداً لاذعاً، فيه التهكم والإقناع معاً. قال المتحامق: نحن لا نؤمن بوجود أي شيء حتى نراه، ولانسلم به حتى نشاهده. وجعل يضرب الأمثلة الواهية على ذلك، إلى أن توصل إلى موضوع وجود الله فقال: نحن لم نشاهد الخالق فهو إذن غير موجود. فقام الطفل الصغير المنصت في زاوية مجلس هذا المتحامق الملحد فقال له: يا أستاذ نحن كلنا لم نر عقلك الذي تفكر به فأنت إذن لا عقل لك، فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين.

(4)
الخيال وحدوده

ولدينا في مركب قدرة الإدراك زاوية خاصة قادرة على تخيل أشياء غير موجودة أمامنا وفق هذا التركيب التخيلي. لكننا مهما حاولنا أن نتخيل صورة ما من الصور، ومهما سبحنا فيها مع الأوهام الخرافية، فإننا لا نستطيع أن نفعل أكثر من أن نضم أجزاء موجودة فعلاً في الكون بعضها إلى بعض، وهذه الأجزاء قد أدركناها فعلاً عن طريق حواسنا، ولكننا بهذا التخيل ضممنا هذه الأجزاء الموجودة بشكل متباعد فتخيلناها على شكل وحدة متماسكة في صورة.

فأنبغ الشعراء، وأبرع الأدباء، وأحذق القصاصين الخرافيين لا يستطيعون أن يتخيلوا شيئاً ما لم يدركوا بحواسهم أجزاء متفرقة في الكون من حولهم. ولنضرب لذلك مثلاً صورة خيالية خرافية نحاول أن نتخيلها:

صوت تجسد على شكل حيوان غريب له عشرون جناحاً، جناح من عطور، وآخر من طعوم، وثالث من ورق الشجر، ورابع من ذهب، وهكذا ... وله أعين يرى منها في وسط كل جناح، وكل عين عبارة عن بركة كبيرة من عين أو عسل أو ماء، وهكذا .. ثم بالغ ما شئت في وضع هذه الصورة الخيالية، حتى إذا رأيت نفسك قد أغربت وأبدعت، عُد لنحللَ لك كل جزء من أجزاء هذه الصورة الخيالية، ثم لنرده إلى أصله من الكون، ولنضعه في مكانه، لنريك أنك لم تستطع أن تتخيل أية جزئية من الجزئيات –صغيرة كانت أو كبير- إلا وقد أدركتها بحاسة من حواسك في شيء من موجودات الكون.

ونستنج مما سبق: أن خيالنا محصور حصراً تاماً فيما فيما تدركه حواسنا، فنحن مهما أوتينا من قدرة خيالية فلا نستطيع أن نتخيل حقيقةً ما من الحقائق ما لم ندرك نموذجاً عنها بحواسنا.

ومن ذلك يستحيل علينا أن نتخيل حقيقة الدار الآخرة وما فيها في صورة، لأننا لم نتصل بأي شيء مما فيها عن طريق أية حاسة من حواسنا. وكذلك يعسر علينا أن نتخيل حقيقة تكوين الملائكة والجن وأمثال ذلك من مخلوقات بعيدة عن مجال حسّنا.

وحقيقة الذات الإلهية أبلغ من ذلك، فكيف نستطيع أن نتخيل حقيقةً ما لذات الخالق العظيم الذي لم نتصل بذاته العليّة بحاسة من حواسنا؟! ولذلك قال العقلاء قديماً: (كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك).

(5)
العقل وحدوده

العقل مقيد بعالم الحس لا عمل له في الحكم على عالم الغيب (الميتافيزيك).

ذلك بأن القوة العاقلة فينا التي تجمع بين المصورة والذاكرة والمخيلة والذكاء، تقوم بعملها الجبار في التحليل والتركيب، والجمع والتفريق، واستنتاج القواعد العامة والكليات، وقياس الأشباه والنظائر على بعضها، بعد أن تنقل الحواس المختلفة إلى المصورة أشرطة مشاهداتها في الكون: شريط المرئيات، وشريط المسموعات، وشريط المذوقات، وشريط المشمومات، وشريط الملموسات، وشريط الوجدانيات الداخلة في الإنسان، ثم تكون أحكامها مقيدة بحدود هذه الأشياء التي جاءتها عن طريق الحس.

وهذه القوة العاقلة فينا لا تستطيع أبداً أن تصدر أحكامها على مغيبات لم يعرض أمامها شريط مسجل عنها، لأن كل حكم تحكم به إنما تقوله متأثرةً بواقع أشرطة الحواس التي جاءتها. وقد يختلف عالم الغيب عن عالم الحس كل الاختلاف فلا يمكن الحكم عليهما بالتشابه، والقاعدة الثابتة عند العلماء: (أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره).

فعالم الغيب لا تستطيع عقولنا أن تحكم على شيء فيه بإثبات أو نفي استقلالاً ذاتياً، إلّا أن يأتيها خبر يشهد العقل بإمكان وجوده وبصدق ناقله، وعند ذلك تسلم بمضمونه تسليماً تاماً دون مناقشة أو اعتراض.

وحيث أن عالم الحس فينا محدود فالعقل فينا محدود أيضاً من وجهين:

الوجه الأول: محدود بين شيئين هما الزمان والمكان. لذلك يسأل العقل دائماً: متى؟ وأين؟

ذلك أن جمع الأشياء التي اتصل بها حسنا لابد أن توجد في مكان، وأن يجري عليها زمان، ولا يستطيع العقل أن يتصور أو يتخيل موجودات لا أمكنة لها، أو أشياء لا يجري عليها زمان. علماً بأن من الأصول المقررة عند جميع العقلاء الواعين المنصفين، أن ذات الله تعالى لا يجري عليها زمان، وليست بحاجة إلى مكان، لأن الله هو خالق الزمان والمكان.

الوجه الثاني: محدود حينما يعلن عجزه عن التسليم بواحد من احتمالين في الكون لا ثالث لهما.

فمثلاً: يتساءل كل إنسان عاقل بينه وبين نفسه: هل هذا الكون متناهي الحدود، أو غير متناهي الحدود؟

وهنا دعنا نجرِ وراء التصور. فأول ما يصادفنا إذا انطلقنا من الغلاف الأرضي فراغ، ثم بعده بؤرة لمجموعة من النجوم، وبعد ذلك بؤرة لمجموعة أخرى من النجوم، وبعد ذلك الانطلاق من المجرة التي تعتبر أرضنا شيئاً صغيراً جداً فيها، وبعد ذلك مجموعات أخرى من المجرات.

ولننتقل إلى التسمية بالسماء الأولى، ثم الثانية، إلى السابعة، ألى الكرسي، إلى العرش، ولندع الفكر يسبح ما شاء له الوهم أن يسبح. ثم بعد ذلك لابد أن يصل العقل أخيراً إلى نقطة يظل فيها حيران عاجزاً عن التفكير، لا يستطيع أن يقتنع باللانهاية، ولا يستطيع أن يسلم بالنهاية.

فإذا قال لنفسه: انتهى الكون، قال له وهمه: وماذا بعد النهاية؟ وإذا قال لنفسه: الكون لا نهاية له، قال في نفسه: كيف يكون شيء لا نهاية له؟!

ثم هو مضطر –عقلاً- أن يتردد بين هذين الاحتمالين، ولا ثالث لهما، وهو لا يسلّم بواحد منهما، وما ذلك إلّا لأن العقل محدود.

فإذا كان العقل عاجزاً عن فهم أشياء في الكون من حوله، وعاجزاً عن الإحاطة بصورتها الحقيقية، فهو عن إدراك صورة لحقيقة الأمور الغيبية التي هي وراء الطبيعة أضعف وأعجز.

وإذا كان العقل محدوداً كما رأينا، فكيف يستطيع أن يحيط بالله سبحانه وتعالى؟! وهو عز وجل غير محدود!!

قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في بيان أن العقل محدود:

(إن للعقل حداً ينتهي إليه كما أن للبصر حداً ينتهي إليه).

وقال الإمام الغزالي عليه رحمة الله:

(ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور قد يظهر فيه مالا يظهر في العقل)"1".

وبما سبق تتلخص لدينا الحقائق التالية:

1 . إن حواسنا التي هي طرق العلم لدينا محدودة لا تتناول كل شيء موجود.

2 . إن قدرة التخيل فينا محدودة في حدود ما يردنا عن طريق الحواس.

3 . إن عقولنا محدودة لا تستطيع أن تدرك جميع الحقائق الكائنة إدراكاً واضحاً وإن اضطرت إلى التسليم بها عقلاً.

وللأستاذ علي الطنطاوي كلام جيد حول هذه الحقائق في مقال: (بحث في الإيمان) بكتابه (فِكَر ومباحث).




1: وللغزالي استدراك جميل على هذه الحقيقة في خاتمة الفصل الأول من كتابه "المقصد الأسنى شرح أسماء الله الحسنى" ، خلاصته: أن ما وراء العقل قد يكون بعيداً عن تصور العقل وتوهمه بعداً بالغ النهاية، لأن العقل محجوب عنه في حدوده التي لا يستطيع أن يتعداها، لكنه لا يمكن أن يكون وراء العقل أشياء يحكم العقل حكماً قاطعاً باستحالتها. فهناك فرق كبير بين ما لا يدركه العقل فهو لا يتناوله بنفي ولا إثبات لأنه ليس من الأمور التي يتناولها بأحكامه، وبين ما يحكم العقل قطعاً بنفيه أو إثباته. فمن الأشياء التي لا يمكن أن يكون وضعها فيما وراء العقل، على خلاف وضعها في أحكام العقل القاطعة لأنها من المستحيلات العقلية: أن يكون لله تعالى شريك، أو أن يكون في مقدور الخالق جل وعلا أن يخلق مثل نفسه، أو أن يجعل الحادث قديماً، أو ما أشبه ذلك.


دليل الإلزام العقلي بين الوجود والعدم
من كتاب العقيدة الإسلامية وأسسها
تأليف الشيخ: عبد الرحمن حبنكة الميداني
1-الأصل في الخالق الوجود فوجوده واجب .
2-والأصل في الكون العدم فوجوده ممكن .
3- ولا يمكن أن يكون السبب في إيجاد الممكن إلّا واجب الوجود.
المرحلة الأولى من الدليل:
لا يشك عاقل في الدنيا بأن الوجود يقابله العدم، وأنه لا ثالث بين الوجود والعدم, ولا ثالث وراء الوجود والعدم.
هذان اثنان إذا ثبت أحدهما انتفى الآخر لا محالة، وإذا انتفى أحدهما ثبت الآخر لا محالة.
وهنا نتساءل مع أنفسنا فنقول : أيهما الأصل؟ هل الوجود الذي يقابله العدم العام هو الأصل، أو العدم العام هو الأصل؟
وللإجابة على هذا التساؤل: لابد أن نسلك مسلك افتراض أن أحدهما هو الأصل، ثم ننظر هل يتعارض معه –على أنه الأصل- ما ينقضه أو لا؟
وعلى هذا فلنفرض أن الأصل لكل ما يخطر في الفكر وجوده هو: العدم.
ومعنى العدم: نفي ذات ما يخطر بالبال، ونفي صفاته. فلا ذات ولا قوة ولا إرادة ولا علم ولا حياة ولا أي شيء.
وبحسب هذا الافتراض نتساءل: كيف استطاع العدم –الذي هو الأصل- أن يتحول إلى الوجود؟ ألسنا نشعر بوجود أنفسنا؟ ألسنا نرى موجودات كثيرة من حولنا؟! والعدم معناه كما عرّفناه هو النفي العام لكل ما يخطر بالبال، فكيف يأتي من هذا العدم العاد ذوات وصفات وقوى فتنطلق بنفسها من العدم إلى الوجود، وانطلاقها لا يكون إلّا بقوة، والمفروض أن هذه القوة عدم أيضاً؟!!
إنه من المستحيل بداهةً أن يتحول العدم بنفسه إلى الوجود، أو أن يوجد العدمُ أيَّ شيء.
وقد جاءت الإشارة إلى ذلك في القرآن الكريم بقوله تعالى في سورة الطور:
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴿٣٥﴾
أي: هل انتقلوا من العدم إلى الوجود من غير خالق؟ أم هل كانوا هم الخالقين لأنفسهم في هذا الانتقال؟ وكلاهما من الأمور المستحيلة بداهةً.
وهكذا: لو كان العدم هو الأصل العام لم يوجد شيء من هذه الموجودات التي لا حصر لها، ولذلك كان علينا أن نفهم حتماً أن الأصل هو الوجود.
وبهذا الدليل ثبت بشكل عقلي قاطع أنه لا يصح أن يكون العدم هو الأصل.
وحيث كان الأمر كذلك، فقد ثبت بشكل عقلي قاطع أيضاً: أن الأصل هو الوجود، أن الوجود –كما سبق- نقيض العد ولا واسطة بينهما.
ثم نقول: إنّ ما كان هو الأصل بين شيئين متناقضين لا يحتاج وجوده إلى تفسير أو تعليل، لأنه متى ما احتاج وجوده إلى تعليل لم يكن أصلاً، وإنما تطلب الأسباب والتعليلات للأشياء التي ليست هي الأصل.
وبهذا الاستدلال ظهر لدينا بوضوح شيئان:
أ . أن الأصل هو الوجود.
ب . أن الأصل لا يتطلب في حكم العقل سبباً ولا تعليلاً أكثر من أن يُقال: إنه هو الأصل.

المرحلة الثانية من الدليل:
إذا كان الوجود هو الأصل لا محالة، فهل يمكن أن يكون لهذا الأصل بداية؟ وهل يمكن أن يلحقه العدم؟
وللإجابة على هذا التساؤل نقول:
1-إن ما كان وجوده هو الأصل لا يصح عقلاً أن يكون لوجوده بداية، لأن ما كان لوجوده بداية، فلا بد أن يحتاج في وجوده إلى سبب أوجده، وما كان كذلك لا يمكن أن يكون وجوده هو الأصل.
2-إن ما كان وجوده هو الأصل لا يمكن أن يلحقه العدم, لأن كل زمن لاحق نفرض أن يطرأ فيه العدم على ما أصله الوجود، نقول فيه أيضاً: لا يزال الوجود هو الأصل, ولا سبب لأن يطرأ عليه به العدم أبداً، لأنه لا يطرأ العدم على أب موجود من الموجودات، إلّا بوصف أن يكون العدم فيه هو الأصل، وإنما انتفى ذلك في زمن ما بسبب من الأسباب، فهو ينتظر زوال السبب حتى يعود إلى أصله, ولقد ثبت لدينا أن العدم من حيث هو مستحيل أن يكون هو الأصل العام ضد الوجود.
ولذلك يستحيل عقلاً أن يطرأ العدم على وجودٍ علمنا أنه هو الأصل.
وإلى هذه الحقيقة جاءت الإشارة في قوله تعالى في سورة الفرقان:
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ..﴿٥٨﴾
فالحي الذي لا يموت هو من كان وجوده هو الأصل، وكذلك حياته وصفات الكمال فيه، فلذلك لا يمكن أن يطرأ عليه العدم أو الموت.

المرحلة الثالثة من الدليل:
علمنا في المرحلتين السابقتين:
أ . أن الوجود من حيث هو يجب عقلاً أن يكون هو الأصل.
ب . أن ما كان وجوده هو الأصل استحال أن يكون له بداية، وأن يطرأ عليه العدم.
والآن: فلنلق نظرة على الموجودات التي تقع تحت مجال إدراكنا الحسي في هذا الكون الكبير، لنرى هل تنطبق عليها فعلاً الحقيقة الأولى، وهي أن الأصل فيها لذاتها الوجود؟
أو ينطبق عليها ضدها، وهي أن الأصل فيها العدم؟
وهنا تبدو لنا حقيقة: أننا لم نكن ثم كنا، ونحن صنف ممتاز التكوين في هذا العالم. قال تعالى في سورة التين:
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴿٤﴾
وأن أشياء كثيرةً كانت في طي العدم في أشكالها وصورها، ثمّ وجدت كما هو مشاهد لنا باستمرار.
كما تبدو لنا صورة التغيرات الكثيرة الدائمة، في كل جزء من أجزاء هذه المواد الكونية التي نشاهدها أو نحس بها، أو ندرك قواها وخصائصها.
فمن موت إلى حياة، ومن حياة إلى موت، ومن تغيرات في الأشكال والصور، إلى تغيرات في الصفات والقوى، وكل ذلك لا يُعلَلَّ في عقولنا وفق قوانين هذا الكون الثابتة التي استفدناها من الكون نفسه، إلا بالأسباب المؤثرة التي تحمل سرَّ هذه التغيرات الكثيرة المتعاقبة في كل شيء من هذا الكون، على اختلاف جواهره وصفاته، سواء منها المتناهي في الصغر، أو المتناهي في الكبر.
ومن هذه الأسباب ما نشاهده، ومنها ما نستنتجه استنتاجاً، ولا نزال نتسلسل مع الأسباب حتى نصل إلى سبب مجهول الذات هو سبب الأسباب الأَول.
وهنا نقول: لو كان الأصل في هذه الموجودات المعروضة على حواسنا هو الوجود، لم تكن عرضة للتحول والتغير، والزيادة والنقص، والبناء والفناء، ولم تحتج صُوَر وجوداتها وتغيُّراتها إلى أسباب ومؤثرات.
وحيث إنها عرضة للتحول والتغير، وحيث إن قوانينها تفرض احتياجاتها إلى الأسباب والمؤثرات، لزم عقلاً أن لا يكون الأصل فيها هو الوجود، وإنما يجب عقلاً أن يكون الأصل فيها هو العدم.
لذلك: فهي تحتاج في وجودها إلى سبب موجد، وسنعرض إلى مبدأ السببية في دليل خاص.
وبهذه المرحلة من الدليل ثبت لدينا ما يلي:
أ . أن الأصل هو العدم في جميع هذه الأشياء الكونية القابلة للإدراك الحسي، وكل ما شابهها في الصفات.
ب . وحيث كان الأصل في جميع هذه الأشياء الكونية العدم: وجب عقلاً أن يكون لها سبب مؤثر، نقلها من العدم إلى الوجود في مرحلة وجودها الأولى، ولا يزال يؤثر باستمرار في جميع صور تغيراتها المتقنة الحكيمة.
وقد عرض القرآن إلى حقيقة أن الأصل فينا العدم، وأننا لم نكن ثم كنا، في قول تعالى في سورة الإنسان:
هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ﴿١﴾إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿٢﴾
ومعلوم بداهة أن المسبوق بالعدم لا بدَّ له من موجد أوجده، وخالق خلقه وصوره.

المرحلة الرابعة والأخيرة من الدليل:
علمنا من المراحل الثلاث السابقة الحقائق الثلاث التالية،
1 . أن الوجود من حيث هو يجب عقلاً أن يكون الأصل.
2 . أن ما كان وجوده هو الأصل استحال أن يكون له ابتداء، وأن يطرأ عليه العدم.
3 . أن هذه الأشياء الكونية المعروضة على حواسنا ومداركنا –والتي نحن جزء منها- وكذلك كل ما شابهها: الأصل فيها العدم، ويحتاج وجودها إلى سبب موجد.
وهنا نقول: حيث اجتمعت لدينا هذه الحقائق الثلاث التي لا مفر منها، ولا محيد عنها، فلابد لنا من التوفيق بينها بشكل تقبله العقول قبولاً تاماً من غير اعتراض، وذلك لا يكون إلّا وفق صورة واحدة لا ثانية لها، وهي أن نقول:
أولاً: لا بد عقلاً من وجود موجد عظيم: وجوده هو الأصل في الكائنات، وعدمه مستحيل، لذلك فهو (واجب الوجود عقلاً).
ثانياً: هذا الكون المشاهد بما فيه من أرض وسماوات، ونجوم ومجرات، وجامد ونبات، وأحياء وأموات: الأصل فيه العدم، ولابد من إخراجه من العدم إلى الوجود من سبب موجد.
ثالثاً: لا يكون السبب الموجد للكون بجميع ما فيه إلّا موجوداً عظيماً، وجوده هو الأصل، وهو واجب الوجود.
وذلك هو: (الله سبحانه وتعالى).

خاتمة حول هذا الدليل:
وبهذه الطريقة من الاستدلال يسقط نهائياً تساؤل المتسائلين: كيف وُجد الله سبحانه؟ لأنه تساؤل لا يعتمد على منطق وعقل، ذلك أن مثل هذا التساؤل إنما يرد في موجود تثبت قوانينه وصفاته أن الأصل فيه العدم، فهو يحتاج إلى موجد حتى يوجده ويبدعه من العدم.
أما الموجود الذي يجب عقلاً أن يكون الأصل فيه الوجود، ولا يجوز عليه العدم، فلا يمكن أن يتعرض وجوده إلى مثل هذا التساؤل بحال من الأحوال. وإيراد تساؤل من هذا النوع يتنافى مع الحقيقة العلمية الثابتة وهي: أن الأصل فيه هو الوجود.



.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق