إشكالات إلحادية (2)
الهوية الإنسانية و الأبعاد الأخلاقية
الأخلاق
ينطلق علي عزت بيجوفتش في كتابه الإسلام بين الشرق و الغرب من مصطلحين مهمين في هذا المجال هما:
1. الواجب.
2. المصلحة.
و
يكمل ليقول الواجب هي المصطلح الأساسي في علم الأخلاق , أما المصلحة فهي
المصطلح الاساسي في علم السياسة و عليه ممكن أن نصل الى نتيجة أولية تقول:
الواجب
و المصلحة و إن كانتا متعارضتان, فإنهما قوتان محركتان للنشاط الإنساني و
لا علاقة للمصلحة في الإخلاق , فالأخلاق لا هي وظيفية و لا هي نفعية
بالمجمل و الدليل لنضرب مثالاً:
إذا
غامر إنسان بحياته فاقتحم منزلاً يحترق لينقذ طفل جاره , ثم عاد يحمل جثته
هامدة بين ذراعيه , فهل نقول إن عمله بلا فائدة لأنه لم يكون ناجحاً؟!(1)
القيمة
من هذا الفعل هي أخلاقية بإمتياز و لا مجال لإقحام المصلحة أو النفعية في
هذا الفعل أبدا لإن الرجل عرض حياته للخطر و عاد على المستوى المادي صفر
اليدين أما على المستوى الإنساني و الأخلاقي فهو بطلٌ تغرد الناس في سيرته.
و
من هذا المنطلق نستطيع أن نقول أن البشر تحكمهم ثنائية المصلحة و الخُلق و
لكل منهما حكم مستقل عن الأخر , و تعليل العمل الانساني بناءاً على
المصلحة فقط بالمعنى الدارويني سيجعلنا كائنات بغيضة حقيرة تسود فيها القوة
و يستباح فيها الضعيف و تسقط القيمة و تسود الوحدوية المادية بمعنى إفعل
ما يجلب لك اللذة دون النظر بالعواقب التي تترتب على هذه الافعال سواءا
عليك أوعلى الاخرين (و هذه مجمل نظرة نيتشة في فكرته: موت الإله) تعالى
الله عن قوله علواً كبيراً.
في معنى العدل و إلزاميته
إتفق
البشر فطرتًا على سمو معنى العدل وإرتفاع قيمته ويعتبر العدل من أرفع
درجات الأخلاق حيث ترفض الرشوة و الحيّف عن الحقوق و لمّا أستقر هذا المعنى
العظيم في وجدان الإنسانية نتطرق له تحت سقف المنهجية الدنينية و المنهجية
الإلحادية لنبين ضعف المنهج الإلحادي في إرساء معاني أخلاقية ترتقى بالجنس
البشري من معنى التراب الى معنى السماء.
يُعرّف العدل على أنه: استعمال الأمور في مواضعها، وأوقاتها، ووجوهها، ومقاديرها، من غير سرف، ولا تقصير، ولا تقديم، ولا تأخير(2).
و في معنى أبسط هو وضع الشيء في محله و لتقريب المفهوم نضرب مثلاً:
إن
فعل النكاح إذا كان مرتبطاً في عقدٍ ديني و شرعي فيشكل قيمة أخلاقية تساوي
معنى العفة,و إن نفس الفعل إذا كان للتلذذ فقط و فتح مواخير البغاء
لإغتصاب أجساد النساء طلباً للمال يتحول الى ظلمٍ بمعنى الحقارة.
لنأتي لتحليل الفعليين على المستوى الديني و الإلحادي المادي:
· في المعنى الديني:
في
النكاح الديني تكون الفرحة هي سيدة الموقف و السرور والدعم , وهنا وضعَ
الدين إطاراً عادلاً بحيث وضع الامر (النكاح) في محله فأصبح دليلاً على
العفة وعلى معنى السمو ورتب عليه المدح و الأجر ,وأما إغتصاب النساء في
بيوت الدعارة وضعه الدين في محله حيث جعل الفعل دليلاً على الظلم والفجور
بحق النفس و المجتمع فرتب عليه عقوبات رادعة .
· في المعنى الإلحادي المادي :
يتساءل الأستاذ عبد الواحد (لعدل هو وضع الشيء في محله...
ومحل الأحداث في عالم الإلحاد .. هو نفس المحل الذي تحدده القوانين الفيزيائية.
وبما انه لا توجد ذرة تخالف تلك القوانين.. إذاً كل حدث في الكون المادي قد وُضِع في محله المادي.
ولذلك لا يوجد في الفكر الإلحادي ولا في الكون المادي ظلم...
فمن أين جئت بمفهوم العدل أيها الملحد؟)(3)
وهنا
إذا كان الإلحاد إقتصر على المنهج المادي الموضوعي فكيف له في ظل التفسير
الإلحادي للحوادث والأفعال أن يقول أن فعل الإغتصاب مُجرّم في ظل (عدم وجود
ذرة تخالف القوانين المادية إذ أنً كل حدث في الكون المادي قد وُضع في
محله المادي)!
و
عليه يصبح فعل النكاح في كلا الحالتيين سواء في ظل عالم مادي (تمّ تطهيره
تماماً من أي قيم أوثوابت أو مطلقات أو معرفة متجاوزة للمادة.)(4)
ولفحص قدرة الإلحاد على معالجة هذا الفعل نضعه تحت هذا السؤال:
أي بحث طبيعي أو تجريبي يمكن أن يفسر فعل الإغتصاب أنه فعل غير أخلاقي ؟
أي بحث طبيعي أوتجريبي يستطيع أن يفسر معنى الألم الذي تعانيه الضحية في الإغتصاب؟
أي بحث طبيعي مادي يستطيع أن يرسم لنا كيف تضع الامور في موازينها لإقامة معنى العدل؟
كيف يمكن فحص هذه الجملة (القتل شر) من منظور تجريبي ؟
و السؤال الاخير نستقيه من قصة لطيفة حصلت لجان جاك روسو نقلها الكاتب ياسر حارب في مقاله (إعترافات) فيقول:
في
آخر أيامه، كتب الفيلسوف جان جاك روسو كتاباً سماه “اعترافات” تحدث فيه،
بكل جرأة وتجرد، عن حياته بأدق تفاصيلها، وكان الدافع الحقيقي لتأليفه ذلك
الكتاب هو ذنبٌ ظل يؤرقه أربعين عاماً. حيث كان يعمل خادماً لدى أسرة
إيطالية عندما كان مراهقاً.وكانت تعمل في بيت الأسرة طاهية جميلة اسمها
“ماريون” ولشدة تعلقه بها قام في يوم من الأيام بسرقة شريطة تخص سيدة
المنزل ليهديه إياها، ولكن أمره كُشِف وتمت مواجهته من قبل أصحاب البيت،
فما كان منه إلا أن كذب واتهّم ماريون بأنها التي سرقت الشريطة، فأدى ذلك
إلى طردهما معاً من المنزل. ولقد ظلت تلك الحادثة تؤرق روسو حتى نهاية
حياته، حيث كانت تراوده كوابيس حولها، ولم يكف عن تذكر صوت ماريون وهي تقول
له حين اتهمها: “لقد كنت أظنك رجلاً طيباً يا روسو. إنك تشقيني كل الشقاء،
ولكنني لا أتمنى أن أكون في موقفك”. وعلى رغم ظلمه لها إلا أنها لم تتهمه
في شيء، مما زاد معاناته النفسية طوال حياته(5).
و في ظل هذه القصة نطرح سؤالاً للعلم التجريبي (كيف بمكن إثبات أن ندم روسو هو فعلٌ أخلاقي و لماذا نثمنه)؟!
من
خلال هذه الاسئلة نستكشف قدرة البحث التجريبي بإدواته القاصرة على تفسير
المعاني الأخلاقية و من خلال هذه الاسئلة و الأمثلة نستطيع الجزم بعدم قدرة
البحث الامبريقي (التجريبي) على التعليل الأخلاقي للسلوك الإنساني و لهذا
السبب رفض نيتشة أي معيار خلا معيار القوة و البطش ! وهو محق في ظل إعتماد
المنهج الحسي التجريبي فقط أما إذا كنا نريد تفسير منطقي لهذه الافعال
الماورائية فلا مناص بالقول أن هناك معنى متجاوز للمادة يرسم هذه الإطر
الأخلاقية و سموها على سفاسف المادية .
الهوية
ينطلق مفهوم الهوية من السؤال الذي شغل كبار العلماء و الفلاسفة (ما هو الإنسان)؟
هذا
السؤال على بساطته الظاهرية إلا أنه يحمل بين طياته عمق طاشت بسببه العقول
و تاه لبها و لم تستقر على شاطيء بين أمواجه المطلاطمة و لنتبين عمق هذا
السؤال نعرضه للفحص عن طريق
السؤال في ظل المنهجيين الديني و الإلحادي لنكتشف أيهما أقدر على تفسير
الإنسان و هويته و إغترابه في عالم المادة و ظلامها.
ينطلق
المنظور الديني للإنسان على أنه يحتوي على بعدين بعدٌ مادي و أخر ورحي و
يبني منهجه على هذا الأساس فينظر في عالم النية و القصد التي تتطلب الشعور
بالفردية والمسؤولية فإذا إرتكب الشخص
جرماً معينا نسأل بداهةً عن قصده و هل هو عاقل أومجنون مكره أم حر !! هذه
الابعاد التي تحكمها الثنائية تشكل القاعدة الإنسانية الأخلاقية التي
أساسها أن الانسانفرد (مدرك لوحديته و تفرده و أنه مسؤول) .
و
أما النظرة الإلحادية المادية فتلخّصُ الإنسان على أنه مجموعة من بلايين
الخلايا تتفاعل لتنتج الأفعال و السلوك و هنا يتساءل الأستاذ عبد الواحد
بناءاً على ذلك فيقول:
(من البديهيات ان (1 لا تساوي ألف) فكيف يشعر الملحد انه شخص واحد رغم انه مكون من بلايين الخلايا العصبية الغير عاقلة؟)(6).
و من خلال هذا هذا السؤال العميق يتضح هل تستطيع أدوات العلم التجريبي أن تثبت أن بلايين الخلايا هي شخص ٌ واحد ؟!
و إذا كان العلم التجريبي لا يستطيع أن يثبت تفرد الإنسان بما يحمله من أدوات قاصرة فوجب
عدم التيقن الذاتي بالفردية و إذا كان التيقن الذاتي ممتنعاً فوجب إمتناع
التيقن الموضوعي (لخارجي) و من هذا المنطلق يقول الدكتور طه عبد الرحمن:
(سيكون كلا الإنسان و الحيوان على هذا والاساس لا يقين له فيما أصاب فيه !)(7)
و إذا كان الإنسان لا يقين له في أي فعل يفعله بصواب أو خطأ لإمتناع إثبات
ذاته إبتدءاً و خارجه إنتهاءاً سينتفي أي فعل أخلاقي لِزاماً و إلزاماً.
و
في نهاية هذا المقال نستخلص قدرة كل من المنهج الديني و الإلحادي على
تفسير الأبعاد الإنسانية و قدرته على التعليل, فالمنهج الديني ينظر للإنسان
من باب الحرية و سموه على المادة و أن هناك عدل و أخلاق في عالمه و أما
المنهج المادي فلا يراه إلا مجموعة من التفاعلات لا تستطيع أن ترتقي الى أي
تعليل أخلاقي نهائياً.
1. الإسلام بين الشرق و الغرب , علي عزت بيجوفتش.
2. تهذيب الإخلاق للجاحظ.
4. النيتشوية أهمّ الفلسفات العلمانيّة ,مقال للدكتور عبدالوهاب المسيري في مجلة الإنسان العدد العاشر.
7. سؤال الإخلاق , طه عبد الرحمن
احسنتم
ردحذفاحسنتم
ردحذف