الخميس، 14 فبراير 2013

إشكالاتٌ إلحادية



المعضلة الإنسانية

تواجه النظرة الإلحادية عدت إشكالاتٍ و معضلات تضعها في حيز الضعف و عدم القدرة على التفسير و التعليل و من ضمن هذه المعضلات العظام (المعضلة الإنسانية) بكل تشعباتها و تفريعاتها و قد عبّر المسيري في أغلب كتابته عن هذه المعضلة مسمياً إياها بلفظ (الإنسان المتجاوز) و يعني به الانسان الذي تجاوز حدود مادته و استحال تعليل سلوكه و فكره تعليلاً ماديا صِرفاً و من هذا المنطلق كان هذا المقال ليسلط الضوء على المعاني المتجاوزة في الأبعاد الإنسانية..

العقل

يدرس العلم المادي (التجريبي) الظواهر على أساسٍ تفكيكي بحيث يقسم المادة أساسَ البحث الى أجزاءٍ صغيرة ليضعها تحت التجربة و يدرس طبيعتها و العلاقات التي تحكمها فالعلم من هذا المنظور قاصرٌ عن إدراكِ الكليات و ربطها بغايتها و من هذا المنطلق الإعتماد عليه (في رسم الخطوط العريضة للخبرة و الغاية البشرية) يعتبر قدحاً في هذا العلم ذاته  و لهذا كان لابد من إستخدام أدوات و وسائل علمية أخرى ليست من طبيعة العلم المادي إستخدمها (فالعلم الطبيعي: وهو المعني بدراسة أحوال كل ما يمكن إخضاعه للحس و المشاهدة من الموجودات في العالم , فإذا ما نظرنا الى سؤال كهذا (لماذا نحتاج الى دراسة العلم الطبيعي نفسه و ما وجه الخير من ذلك) فبإدنى نظر من التأمل في مضمون هذا السؤال يتبين لنا أنه ليس مبحثاً من مباحث العلمي الطبيعي)(1).

ومن هذا المنطلق فإن دراسة العقل تعتبر من أهم الدراسات التي تبين قدرت الإنسان على تجاوز الواقع المادي و بناء أٌطر تحكمه (فهو كائن قادر على تطوير منظومات أخلاقية غير نابعة من من البرنامج الطبيعي/ المادي الذي يحكم جسده و احيتاجاته المادية و غرائزه و هو قادر على الإلتزام بها و خرقها، و هو الكائن الوحيد الذي طور نسقاً من المعاني الداخلية و الرموز التي تدرك من خلالها الواقع)(2).

ولنا هنا الحق في التساؤل من أين للإنسان أن يطور هذه المنظومات الأخلاقية و ما الجين أو الخلية المسؤولة عن هذه الافعال فمثلا يتسأل بيجوفتش (لو أن شخصا حاول إنقاذ طفل من بين الركام و عاد هذا الرجل, و الطفل ميت و الرجل على وشك الهلاك لماذا نثمن هذا الفعل و نجعل صاحبه من الابطال)(3) مع أن الواقع المادي على المستوى الجسدي كله أضرار لماذا نجعل عمله ذا قيمة هنا يأتي دور العقل ومنظومته الفطرية الرائعة التي تبين تجاوز الإنسان لواقعه المادي وبناء معاني أعلى من المنظومة المادية بكليتها..

تاه العلماء في فهم كنّ العقل و أختار المذهب الإلحادي (المادي) حصر معناه في الدماغ و إنكار أي جانب روحي يساعد على هذا النشاط , فجعلوا العقل كله عبارة عن: تفاعلات في خلايا الدماغ فهو تفاعل بيوكميائي يُصدر الانسان عنه افعاله و افكاره و سلوكه.

و هنا يقول إنجلز

"ان العالم المادي الملموس حسيا الذي ننتمي نحن اليه، هو الحقيقة الوحيدة، ان وعينا وتفكيرنا، مهما قد يبدو من الحساسية القصوى، هو نتاج للمادة، العضو الجسدي، الدماغ. ان المادة ليست نتاجا للفكر بل ان الفكرة ذاتها ليست سوى اعلى نتاج للمادة"(4).

و ليس يختلف عنه رهبان الإلحاد الجدد فهذا (سام هريس) يقول: إن الفهم العلمي (الطبيعي) للعلاقة بين النيات، والعلاقات البشرية، وأحوال السعادة الإنسانية، سيكون له تأثيره البالغ في (معرفة) طبيعة الخير والشر (الأخلاقي)، وفي معرفة الجواب المناسب للاعتداءات الأخلاقية التي يقع فيها الآخرون. فقد أمسى لدينا الكثير من الأسباب لنؤمن بأن البحث المستمر في الدائرة الأخلاقية سيفضي إلى امتزاج نظمنا الاعتقادية المختلفة على نحو ما وقع في كل مجال من مجالات العلم - على الأقل فيما بين أولئك المؤهلين لذلك الأمر(5).

و من كلامه يتضح أنه يحاول ربط الاحكام الأخلاقية العقلية بالفهم العلمي الطبيعي!.

بناءاً على الفرض السابق أن العقل مجموعة من الخلايا البيوكمياية تتفاعل بشكل محدد لتنتج فكراً و سلوكاً أضع مجموعة من الإشكالات و إلزامتها لأتباع المنهجية المادية:

1- على فرض القبول بهذا التعريف الذي يحدد أن فعل الإنسان و سلوكه و فكره عبارة عن مجموعة من الخلايا (ماذا لو إستطعنا التحكم بهذه المجموعة من الخلايا).

·        إلزام هذه الاشكلية يكون في: أنه لو إستطعنا التحكم بهذه الخلايا سينتفي القصد و حرية الإرادة عند الانسان أو كما يسميها المسيري (نهاية الانسان) و عليه ستبطل الأحكام و يصبح بإمكانا بالتلاعب بهذه الخلايا أي أننا نستطيع أن غير مقهوم الإغتصاب من فعل قذر الى فعل سامي و هنا تهدم المنظومة الإنسانية بكليتها!!!.

2- على فرض القبول بإن الخلايا هي التي تنتج الفكر و سلوكه فنطرح سؤالاً (هل الإنسان متحكم أو مدرك لحركة هذه الخلايا).

·        إلزام هذه الاشكالية: بما أننا نقر أننا الان لا نشاهد حركة هذه الخلايا و لا تفاعلاتها فهي خارج الحيز الإدراكي لنا و خارج سيطرتنا و عليه سيكون أي فعل يصدر من الإنسان منتفي القصد أيضا لإن حركة هذه الخلايا و تفاعلاتها خارجة عن إرادته و عن إدراكه و يترتب على هذا الإلزام نفي أي حكم بالخير أو الشر عن أي فعل إنساني لأن القصد ممتنع مع تحكم هذه الخلايا بشكل غير مُدرك على أفعال الإنسان وسلوكه !!!

و لتفنيد هذه النظر من ناحية علمية مادية أيضا  ننقل رأي عالم العصبيات الشهير بانفيلد الذي رسم آليات الحواس في الدماغ و هذه تجربته:

(إن ملامسة المنطقة الخاصة بالنطق فى الدماغ تؤدى إلى فقدان مؤقت للقدرة على الكلام (حبسه) عند المريض ونظرا لانعدام الإحساس فى الدماغ فالمريض لا يدرك أنه مصاب بالحبسه إلا عندما يحاول أن يتكلم أو  يفهم الكلام فيعجز عن ذلك ويروى بنفيلد ما حدث ذات مرة (أخذ أحد مساعدى يعرض على المريض صورة فراشة وضعت الالكترود (القطب الكهربائى) على قشرة المخ الخاصة بالنطق فظل المريض صامتاً للحظات ثم طقطق باصابعه كما لو كان غاضبا ثم سحبت الالكترود فتكلم فى الحال وقال: الأن أقدر على الكلام إنها فراشة لم اكن قادرا على النطق بكلمة (فراشة) فحاولت أن أنطق بكمله (عثة) التي هي شبيها بالفراشة لظن المريض أنه غير قادر النطق بإسم الفراشة) ثمّ يقول (لقد فهم الرجل بعقله الصورة المعروضة على الشاشة وطلب عقلة من مركز الكلام فى دماغه أن ينطق بالكلمة التى تقابل المفهوم الماثل فى ذهنه وهذا يعنى أن ألية الكلام ليست متماثلة مع العقل، وإن كانت موجهة منه فالكلمات هى أدوات تعبير عن الأفكار، ولكنها ليست الأفكار ذاتها وحين عجز المريض عن التفوه بالكلمة لانسداد الكلام عنده استغرب وأمر بالبحث عن اسم شىء مشابه هو (العثه) وعندما فشل ذلك أيضا طقطق بأصابعه غضبا (إذ إن هذا العمل الحركى لا يخضع لمركز الكلام) وأخيرا عندما انفتح مركز الكلام عند المريض شرح تجربته الكاملة مستخدما كلمات تناسب أفكاره وقد استنتج بنفيلد أن المريض حصل على كلمات من الية الكلام عندما عرض مفاهيم ونحن نستطيع الاستعاضة عن ضمير الغائب فى عملية الاستبطان هذه بكلمة عقل فعمل العقل ليس عملا أليا).

وتوصل بنفيلد إلى نتائج مماثلة فى مناطق الدماغ التى تضبط الحركات فيقول: عندما جعلت أحد المرضى يحرك يده بوضع الالكترود على القشرة الحركية فى أحد نصفى كرة دماغه كنت أساله مرارا عن ذلك وكان جوابه على الدوام , (أنا لم احرك يدى ولكنك أنت الذى حركتها) وعندما أنطقته قال: أنا لم أخرج هذا الصوت أنت سحبته منى.

و يستنتج بانفيلد: ونتيجة مراقبة مئات المرضى بهذه الطريقة ينتهى بنفيلد إلى أن عقل المريض الذى يراقب الموقف بمثل هذه العزلة والطريقة النقدية لا بد من أن يكون شيئا أخر يختلف كليا عن فعل الاعصاب اللاإرادي ومع أن مضمون الوعى يتوقف إلى حد كبير على النشاط فالإدراك نفسه لا يتوقف على ذلك.

و يستنتج استنتاج أخر فيقول: ليس فى قشرة الدماغ أى مكان يستطيع التنبيه الكهربائى فيه أن يجعل المريض يعتقد أو يقرر شيئا و الالكترود يستطيع أن يثير الأحاسيس و الذكريات غير أنه لا يقدر أن يجعل المريض يصطنع القياس المنطقى، أو يحل مسائل فى الجبر بل إنه لا يستطيع أن يحدث فى الذهن أبسط عناصر الفكر المنطقى والالكترود يستطيع أن يجعل جسم المريض يتحرك ولكنه لا يستطيع أن يجعله يريد تحريكه إنه لا يستطيع أن يكره الإرادة فواضح أذا أن العقل البشرى و الإرادة البشرية ليس لهم أعضاء جسدية.

وينهي كلامه: (طوال حياتى العلمية سعيت جاهدا كغيرى من العلماء إلى إثبات أن الدماغ يفسر العقل).

ويعلق كااتبا الكتاب: فهو قد بدأ مسلحا بجميع افتراضات النظرة القديمة غير أن الأدلة حملته أخر الأمر على الإفراد بأن العقل البشرى و الارادة البشرية حقيقتان غير ماديتين ويعلن بنفيلد ياله من أمر مثير إذا، أن نكشف أن العالم يستطيع بدوره أن يؤمن عن حق بوجود الروح وإذا كان العقل والإرادة غير مادتين(6).

وبنهاية هذا المقال يكون تم تفنيد النظرة المادية للعقل فلسفياً و علمياً و يبقى المعنى المتجاوز هو الاصل الذي من خلاله يستطيع العقل بناء نظامه الاخلاقي و تجاوز واقعه المادي , و مع أننا لا ننكر ضرورة النشاط الدماغي للتفكير لكنه شرط ناقص يحتاج الى روح كي تمكنه من التحكم و هذا ما عبر عنه المسيري في حواراته عندما قال: حينما تغمض عيناك فإنك تبصر لإن الإنسان له بصر و بصيرة , عين ٌ حسية مادية ترى الأشياء و عينٌ روحية تخترق السطح لتصل الى البنية الكامنة و الى طبيعة الوحود(7)..


1.      مجلة التوحيد العدد الثالث عشر , مقال ابو الفداء بعنوان (من مخازي كهنة الإلحاد , العلم الحديث يبطل حرية الارادة).

2.      الفلسفة المادية و تفكيك الانسان, د. عبد الوهاب المسيري.

3.      الاسلام بين الشرق و الغرب , علي عزت بيجوفتش.

4.      (ماركس انجلز، مختارات).

5.      Harris, Sam (2005): The End of Faith: Religion, Terror, and the Future of Reason,

6.      العلم من منظوره الجديد, (روبرت م أغروس و جورج ن , ستانسيو. ترجمة د. كمال حلايلي.

7.      حوارات , المنهج و الثقافة, الدكتور عبد الوهاب المسيري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق