الخلد ذو الأنف النجمي المحير(*)
يمتلك الخُلْد(1) ذو الأنف النجمي ما قد يكون أسرع وأغرب أنف في العالم.
<C .K. كاتانيا>
اقترح الفيزيائي المشهور<J .A.ويلر> ذات مرة قائلا: «أيا كان المجال، ينبغي أن تبحث عن أغرب الأشياء، ومن ثم تستكشفه.» وبالتأكيد فإنه يصعب أن نتخيل حيوانا أكثر غرابة من الخُلْد ذي الأنف النجمي، فهو مخلوق يمكنك أن تتصوره وقد خرج من أحد الأطباق الطائرة كي يحيي وفدا من أبناء الأرض الفضوليين. فأنفه محاط باثنتين وعشرين لاحقة appendage لحميّة تنهمك عادة في حركة يزوغ لها البصر، فيما يقوم الخلد باستكشاف بيئته. فإذا ما أضفت إلى ذلك طرفيه الأماميين الكبيرين المزودين بالمخالب، فإنك تظفر بلغز بيولوجي غامض لا يمكن مقاومته. فكيف تطور هذا المخلوق؟ وما هي النجمة؟ وكيف تؤدِّي وظيفتها، وما الغرض الذي تُستخدم من أجله؟ وما هذه إلا بعض الأسئلة التي شرعتُ في الإجابة عنها في شأن هذا الحيوان الثديي الغريب. لقد تبين أن الخُلْد ذا الأنف النجمي لا يملك وجها مثيرا للاهتمام فحسب، بل يمتلك كذلك دماغا رائع التخصص يمكن أن يفيد في الإجابة عن أسئلة قديمة العهد تتصل بتعضّي organization الجهاز العصبي للثدييات وتطوره.
ربما تود أن تعرف أن حيوانات الخُلْد ذات الأنوف النجمية (كونديلورا كريستاتا Condylura cristata) هي حيوانات صغيرة لا يتعدى وزنها50غراما فقط، وهو وزن يعادل ضعف وزن الفأر، وأنها تعيش في أنفاق ضحلة في الأراضي الرطبة لمعظم شمال شرقي الولايات المتحدة وشرقي كندا، وتتصيد فرائسها تحت الأرض وتحت الماء كذلك. وكما هي حال الثلاثين عضوا تقريبا الأخرى لفصيلة الخُلْد (تالپيدي Talpidae)، فإن الخُلْد ذا الأنف النجمي يشكل جزءا من الرّتبة الثديية آكلات الحشرات Insectivora، وهي مجموعة معروفة باستقلابها (أيضها) metabolism العالي وشهيتها المفرطة. وبذلك فإن الخُلْد ذا الأنف النجمي الضئيل الحجم ذا الشهية المفرطة يجب أن يعثر على ما يكفي من الفرائس ليتمكن من البُقيا خلال فصول الشتاء الباردة في المناطق الشمالية. فهو يفتش عن ديدان الأرض في التربة مثلما تفعل حيوانات الخُلْد الأخرى، ولكنه إضافة إلى ذلك يستطيع الوصول إلى حشد من اللافقاريات الصغيرة ويرقات الحشرات الموجودة في الطين وبين أوراق النبات التي تزخر بها موائله في الأراضي الرطبة؛ وكذلك في البرك والجداول، حيث يسبح على امتداد القعر العكر ليلتقط فرائسه. ويُعَد البحث عن الفريسة مجال عمل النجمة، إذ إن هذه الأخيرة ليست جزءا من جهاز الشم؛ كما أنها ليست يدا إضافية تُستخدم في جمع الطعام ، بل إنها ـ عوضا عن ذلك ـ عضو لمس ذو حساسية لا تُضارع.
فحص النجمة عن كثب(**)
حينما بدأتُ تفحص التركيب التشريحي للنجمة باستخدام المجهر الإلكتروني الماسح ـ وهو جهاز يكشف البنية المجهرية لسطح الجلد ـ توقعت أن أشاهد مستقبِلات لمسية touch receptors هنا وهناك في أمكنة مختلفة عبر الجلد. وبدلا من ذلك فقد فوجئت بأن النجمة، على غرار شبكية عين الإنسان، تتألف كلية من أعضاء حسية. فسطح كل من اللواحق الاثنتين والعشرين التي تحيط بالمنخرين nostrils يتألف من تجمعات من بروزات مجهرية (أو حُلَيْمَات)تدعى أعضاء أَيْمر organs s’ Eimer. وبدوره يتكون كل عضو أيمر من صفيف من بنى عصبية تُبلِّغ عن نواح مختلفة من حس اللمس.
إن النجمة ذات اللون القرنفلي تجعل أنف هذا الخلد واضحا جليًّا لا تخطئه العين. كما تجعله واحدا من أكثر أعضاء اللمس التي نشاهدها في المملكة الحيوانية حساسية ـ فهو يقوم على نحو غريب بدور العين. |
ويصحب كل عضو أيْمر ثلاثة مستقبِلات حسية منفصلة. فتوجد عند قاع العضو تماما نهاية عصبية وحيدة تحيط بها حلقات (أو صفائح) عديدة متحدة المركز من نسيج تشكله إحدى خلايا شاوان Schawann cell، التي تعتبر خلية دعامية متخصصة. وينقل هذا المستقبل الرقائقي(2)معلومات بسيطة نسبيا عن الاهتزازات، أو حينما يمس أحد هذه الأعضاء للمرة الأولى شيئا ما. ويقع فوق هذا المستقبل ليف عصبي آخر يتصل بخلية متخصصة تدعى خلية ميركل Merkel cell. وعلى خلاف التشكيلة الرقائقية، فإن هذا المعقد العصبي لخلية ميركل لا يبلِّغ إلا عن الوهدة depression المستديمة في الجلد. ويشيع وجود كل من هذين المستقبلين في جلد الثدييات.
ولكن يقع عند قمة كل عضو أيْمر، مستقبِل تنفرد به حيوانات الخُلْد؛ إذ تشكل سلسلة من النهايات العصبية نمطا دائريا من انتفاخات عصبية تترتب ترتيبا تشععيا تحت السطح الخارجي للجلد مباشرة. وتوحي تسجيلاتنا المأخوذة من أدمغة حيوانات الخُلْد ذات الأنوف النجمية أن هذا العنصر الحسي الأخير يوفّر أهم نواحي الإدراك اللمسي متمثلا في قرينة index على النسيج المجهري للسطوح المتباينة.
وتتركب النجمة من أكثر من 000 25 من أعضاء أيْمر، مع أن مساحة سطحها تقل عن سنتيمتر مربع واحد. وتتزود هذه الأعضاء الحسية جميعها بما يزيد على 000 100 من الألياف العصبية التي تنقل المعلومات إلى الجهاز العصبي المركزي، ومن ثم إلى المركز الأعلى لمعالجة المعلومات لدى الثدييات، المتمثل في القشرة الجديدة neocortex. وبهذا الصفيف المهول من المستقبلات، يستطيع الخُلْد إجراء تمييزات حسية فائقة السرعة خلال طوافه بحثا عن الفرائس.
تتحرك النجمة بسرعة فائقة بحيث لا تستطيع مشاهدتها بعينك المجردة. وقد أظهرت آلة التصوير ذات السرعة العالية أن النجمة تلمس 12 منطقة أو أكثر في كل ثانية. فبواسطة مسح موئله بسلسلة سريعة من اللمسات، يستطيع الخُلْد ذو الأنف النجمي في ثانية واحدة أن يتبين وأن يأكل خمسة أجزاء مستقلة من الفريسة، مثال قِطَع دودة الأرض التي نقدمها طعاما للخلد في المختبر.
يتعرف الخُلْد ذو الأنف النجمي فريسته في أقل من نصف ثانية. فحينما تلمس اللاحقة الأطول شيئا جديرا بالاهتمام (a)، يتحرك الأنف بحيث يتسنى لأقصر لاحقة وأكثرها حساسية أن تلمس وتتعرف هذا الشيء (b)الذي يلتهمه الحيوان في الحال. |
إنها تعمل كإحدى العيون(***)
إن ما يثير الدهشة أكثر من هذه السرعة المذهلة، يتمثل في الطريقة التي يستخدم الخُلْد نجمته. فالنجمة تؤدي وظيفة تشبه وظيفة العين. فإذا حاولت أن تقرأ هذه الجملة دون تحريك عينيك، فإنك سريعا ما تدرك أن جهازك البصري ينقسم إلى جهازين وظيفيين مستقلين. ففي أي وقت معين، لن يتحلل إلا جزء صغير من المشهد الإبصاري (نحو درجة واحدة) من قِبَل المنطقة المركزية ذات الميز resolution العالي في شبكية عينك، وهي النُّقْرَة (الحُفَيْرَة fovea). أما المنطقة الأكبر بكثير في شبكية عينك والتي تتصف بقلة الميز فإنها تحدد مواضع المناطق ذات الأهمية المحتملة بغية تحليلها تاليا. إن الحركة السريعة المتميزة للعينين والتي تعمل على إعادة النقرة ذات الميز العالي إلى وضعها يطلق عليها الرَّمْش(3) saccade.
وعلى غرار ما نمسح منظرا بصريا بعيوننا، فإن حيوانات الخُلد ذات الأنوف النجمية، تحرك النجمة باستمرار بغية تفحص المواقع اللمسية في أثناء ترحالها عبر أنفاقها، وبذلك تستكشف بشكل سريع مناطق واسعة بواسطة أعضاء أيْمر التابعة لجميع لواحقها الاثنتين والعشرين. ولكن حينما تعثر مصادفة على منطقة ذات نفع لها ـ مثال طعام محتمل ـ فإنها تحرك النجمة دائما بحيث ينفّذ زوج واحد من اللواحق مزيدا من التحريات. وكما توجد لدى البشر نقرة للرؤية، فإن حيوانات الخُلْد ذات الأنوف النجمية تمتلك نقرة للّمس fovea for touch، تتألف من الزوج السفلي لِلَّواحق القصيرة الواقع فوق الفم، والذي يعرف كل منهما باللاحقة رقم 11. وكما هي حال نقرة شبكية العين فإن هذا الجزء من النجمة يمتلك أعلى كثافة من النهايات العصبية الحسية. إضافة إلى ذلك، فإن الحركات السريعة للنجمة والتي توجِّه وضع هذه النقرة اللمسية نحو الأشياء ذات الأهمية للحيوان تعتبر شبيهة بالروامش saccades في الجهاز الإبصاري.
ويذهب التشابه الوظيفي إلى ما هو أبعد من ذلك. ففي جهازنا الإبصاري لا تعد حركات العينين والتركيب التشريحي للشبكية الوحيدين المسؤولين عن إدارة النقرة ذات الميز العالي، بل تخصصت أدمغة البشر لمعالجة المعلومات الواردة عادة من هذا الجزء من المشهد الإبصاري.
تتمثل إحدى الصفات المميزة لمعالجة المعلومات في الأجهزة الحسية للثدييات بالتعضي (الترتيب) organization الطبوغرافي للمعلومات الواردة من المستقبلات الحسية؛ إذ تحتوي الباحات areas الإبصارية المخية على خرائط للشبكية، في حين توفر الباحات المخية السمعية خرائط للقوقعة (وهي المستقبلات في الأذن التي تُعَد خرائط للنغمات tones). كما تحتوي الباحات المخية اللمسية على خرائط لسطح الجسم. وربما يصعب العثور على تمثيل بالخرائط يفوق ما يحدث في الجهاز الحسي الجسدي somatosensory system للخُلْد ذي الأنف النجمي.
رسم خريطة اللمس(****)
وبالعمل مع زميلي <H .J.كآس> [في جامعة ڤاندربيلت] تمكنت من تفحص كيفية تعضّي القشرة الجديدة للخُلْد ذي الأنف النجمي. فبتسجيل النشاط الصادر عن العصبونات neurons التي تؤلِّف الباحات القشرية المخية المختلفة، رسمنا خرائط التمثيل العصبي للنجمة، موضحين كيف وأين تستجيب الخلايا العصبية الموجودة في القشرة المخية للتنبيه stimulaion اللمسي لأعضاء أَيْمر. وقد أمكننا التمييز بين ثلاث خرائط منفصلة للنجمة تَعكس فيها استجاباتُ العصبونات (الخلايا العصبية) التركيبَ التشريحي للأنف على الجانب الآخر للوجه. (ونذكر هنا أنه في جميع الثدييات يُمثَّل النصف الأيسر للجسم غالبا في الجانب الأيمن للقشرة والعكس بالعكس). ولدهشتنا، وجدنا أيضا أن هذه الخرائط تُشاهَد في مقاطع دماغية كان قد جرى صبغها بحثا عن واسمات markers خلوية متنوعة. وبالفعل، استطعنا مشاهدة نمط نجمة في القشرة.
ولدى مقارنتنا حجوم الخرائط الدماغية القشرية بلواحق النجمة، لاحظنا تعارضا واضحا. فاللاحقة الحادية عشرة التي تعد واحدة من أصغر أجزاء النجمة تمتلك أكبر تمثيل في القشرة على الإطلاق. وتعد هذه المفارقة مثالا كلاسيكيا لما اصطلح على تسميته التكبير القشري المخي cortical magnification؛ بمعنى أن الجزء الأكثر أهمية في السطح الحسي يتصف بأكبر تمثيل في الدماغ بدون أي اعتبار للمقدار الفعلي للمساحة الحسية الموجودة على الحيوان.
كيف يتعرف الأنف(*****)
رسم تخطيطي للبنية التشريحية في الحيز القشري المخيتكشف خرائط القشرة المخية للخُلْد ذي الأنف النجمي أهمية اللاحقة الحادية عشرة. وبحسب ما يبين هذا الشكل التخطيطي فإن هذه اللاحقة الأكثر حساسية تستحوذ على أكبر مساحة في القشرة (الشكل الأعلى). ويصدق الشيء نفسه على الجزء الأكثر حساسية للعين البشرية. وكذلك يعكس تعضي القشرة المخية بطريقة رائعة صور مواقع اللواحق (الشكل الأيسر)وأهميتها النسبية.تتألف لواحق النجمة بتمامها من أعضاء حسية. وتمتلك أعضاء أيمر Eimer 's organs عناصر مشتركة مع العديد من مستقبلات الجلد في الحيوانات. فهناك نهاية عصبية وحيدة تقع عند القاعدة تماما (a)وتنقل المعلومات المتعلقة بالاهتزازات وبالتماس المبدئي مع أحد الأشياء. وهناك أيضا ليف عصبي آخر يسجل الضغط المستديم (b). أما النهاية الذروية المدببة لعضو أيمر فإنها لا توجد إلا في حيوانات الخُلْد وتأخذ شكل انتفاخات عصبية تصطف تحت الجلد الخارجي تماما، وتكون حساسة بشكل مذهل لجزيئات السطوح (c). |
وتحدث الظاهرة نفسها في الجهاز الإبصاري، حيث تمتلك نقرة الشبكية الصغيرة النصيبَ الأكبر في خرائط القشرة المخية الإبصارية. وكذلك اكتشفنا أن العصبونات الممثلة للاحقة الحادية عشرة قد استجابت للتنبيه اللمسي لمساحات (أو حقول استقبالية receptive fields) صغيرة جدا على اللاحقة الحادية عشرة، في حين لم تستجب العصبونات الممثلة لِلَّواحق الأخرى إلا لتنبيه مساحات أكبر. وتعكس الحقول الاستقبالية الصغيرة الخاصة باللاحقة الحادية عشرة اتّصاف هذه المنطقة بحدة أكبر، كما تعكس صورة تعضّي الأجهزة الإبصارية.
ويُوحي اكتشاف نقرة حسية جسدية في الخُلْد ذي الأنف النجمي بأن هذا المخطط التَّعْضَوِي organizational scheme هو حل تطوري عام لبناء جهاز حسي عالي الميز. فالأجهزة الإبصارية المزودة بنقرة هي الأكثر شيوعا، ولكن يمكن أن يكون للأجهزة السمعية نقرة سمعية كذلك، بحسب ما أوضح <N. شوگا> [من جامعة واشنطن] بشكل رائع في الخفافيش ذات الشوارب؛ إذ يصدر الكثير من الخفافيش صيحات تحدد الموقع بالصدى وتحتوي على مجال تواتري frequency range ضيق، ثم تقوم هذه الخفافيش بتحليل الصدى المرتد للاستفادة منه في توجيه طيرانها وفي اكتشاف فرائسها. وتُخصَّص نسبة عالية من المستقبلات السمعية عند الخفافيش (وهي الخلايا الشعرية الموجودة في القوقعة)، وكذلك باحات واسعة من دماغ الخفاش، لتحليل المجال التواتري الضيق الموافق للصوت التوافقي harmonic في الصدى المرتد. وفي هذا ما يعد مثالا لنقرة سمعية.
إن الخفافيش تمتلك نسخة سمعية من الرمش أيضا، وإن بدا ذلك مما يصعب تصوره. وهذا أمر ضروري، لأن الأصداء المرتدة تنزاح دوپلريا Doppler-shifted نحو تواترات أخرى مختلفة، تعتمد على سرعة كل من الخفاش وهدفه (الذي عادة ما يكون حشرة سيئة الحظ). وهي تواترات تقع في الأغلب خارج المجال التواتري للنقرة السمعية. ونظرا لأن الخفاش الصياد لا يستطيع تغيير نقرته السمعية، فإنه يغير باستمرار من تواتر نبضاته الصادرة، بحيث يغدو الصدى المرتد المنزاح دوپلريا عند تواتر نقرته السمعية. ويطلق على هذا السلوك اسم تعويض الانزياح الدوپلري Doppler-shift compensation، وهو المكافئ السمعي لتحريك العيون أو النجمة، لغرض تحليل المنبه stimulus بواسطة المنطقة ذات الميز العالي للسطح الحسي والباحات الحاسوبية المقابلة في الدماغ.
يقدم جنين الخُلْد ذي الأنف النجمي دالاّت clues على التاريخ التطوري للحيوان، إذ تبدأ اللواحق كأنابيب مطمورة في وجه الخلد، ثم تنبثق خارج الجلد قبل الولادة. وبعد أسبوعين من ذلك، تبدأ هذه اللواحق في الانثناء نحو الأمام. وربما تكون هذه الأنوف الغريبة بدأت كأعضاء مستلقية بشكل منبسط على جانب الخطم، كما هي الحال تماما في خلد الشاطئ البالغ (الشكل السفلي). |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق