الإدراك لدى الإنسان / وحقيقة الروح
ناقشنا
في موضوع سابق حقيقة أننا نعيش داخل جمجمتنا، ولا ندرك أكثر مما تنقله
إلينا حواسنا· لنتقدم خطوة أخرى فنـتساءل: هل ندرك أشياء حقيقية أم خيالية؟
''· ولنطرح سؤالاً آخر: هل هناك ضرورة لوجود العالم الخارجي حتى نسمع ونرى؟
http://antishobhat.blogspot.com/2012/11/blog-post_8256.html
تقديم
مثال عن الأحلام سيوضح موضوعنا أكثر. لنتصور (حسب ما ذكرناه حتى الآن في
الأجزاء السابقة) أننا نرى الحلم في عقلنا. ففي الحلم يكون لدينا خيال جسم
وخيال ذراع وخيال عين وخيال دماغ. وإذا سئلنا، خلال حلمنا" أين ترى؟"،
فإننا سنجيب "إنني أرى بدماغي". وإذا سئلنا أين دماغنا وما شكله، فإننا
سنمسك برأسنا ونقول: "إن دماغي هو عبارة عن كتلة من اللحم موجودة في رأسي
ولا تزن أكثر من كيلوغرام واحد".
إننا نعلم بأنه لا يوجد تمييز
فيزيائي بين مكان الحلم ومكان ما نسميه الحياة الحقيقية. ولهذا فعندما
نُسأل في المكان الذي نسميه الحياة الحقيقية، السؤال الذي طرحناه سابقا:
"أين ترى؟" فإن الجواب "في دماغي" ليس له معنى كما هو الحال في المثال
السابق. وفي كلا الحالتين فإن الكيان الذي يرى ويدرك حسياً ليس هو الدماغ
الذي هو عبارة عن كتلة من اللحم. ويدرك برجسون هذه الحقيقة فيقول في كتابه
"المادة والذاكرة" بصورة موجزة أن "العالم مكون من صور، وهذه الصور تتواجد
في وعينا، والدماغ هو واحد من هذه الصور(19)".
.
ولهذا، وبما أن
الدماغ هو جزء من العالم الخارجي، فلابد من وجود إرادة لإدراك كل هذه
الصور. وهذا الكائن هو "الروح".ويعبر الفيلسوف البريطاني الشهير ديفيد هيوم
عن أفكاره بخصوص هذه الحقيقة بما يلي:
"من ناحيتي عندما أدخل بصورة
جوهرية داخل ما أدعوه نفسي، فإنني أتعثر دوماً بواحد من الأشياء المدركة
كالحرارة أو البرودة، الضوء أو الظل، الحب أو الكراهية، الألم أو السعادة.
ولا أستطيع أن أمسك نفسي في أية مرة بدون إدراك، ولا أستطيع أن أرى أي شيء
بدون إدراك(20)".
.
إن الكائن الحقيقي هو الروح. فالمادة تتألف من
مدركات تشاهدها "الروح". إن المخلوقات العاقلة التي تكتب وتقرأ هذه الأسطر
ليست كل واحدة منها كومة من الذرات والجزيئات وسلسلة من التفاعلات
الكيميائية فيما بينها، إنها عبارة عن "الروح".
الكائن الحقيقي المطلق
كل
هذه الحقائق تضعنا وجهاً لوجه أمام سؤال مهمّ جداً. إذا كان الشيء الذي
نسلم به وهو العالم المادي يتألف فقط من مدركات تراها روحنا، إذن ما هو
مصدر هذه المدركات؟
.
وبالإجابة على هذا السؤال لابد من أخذ ما يلي
في الحسبان: المادة ليس لها وجود مستقل بحد ذاتها. وبما أن المادة هي عبارة
عن إدراك، لذلك فهي شيء "اصطناعي". أي أن هذا الإدراك قد سببته قوى أخرى،
وهذا يعني أنه قد خلق.
.
وأكثر من ذلك، فإن هذا الخلق يجب أن يكون
مستمراً. ولو لم يكن هناك خلق مستمر وثابت فإن ما ندعوه المادة ستختفي
وتضيع. ويمكن ربط ذلك بشاشة التلفاز حيث تُعرض عليها الصورة طالما أن إشارة
البث مستمرة. إذن من الذي يجعل روحنا ترى النجوم والأرض والنباتات والناس
وأجسامنا وكل الأشياء الأخرى التي نراها؟
الدماغ
هو عبارة عن مجموعة من الخلايا المؤلفة من البروتين والجزئيات الدهنية.
ويتشكل من خلايا عصبية تسمى العصبونات (في الصورة أعلاه). وهذه العصبونات
لا تشكل الوعي حتماً. عندما نفحص تركيب العصبونات نرى ذرات لا توجد في هذه
القطعة من اللحم طاقة تستطيع رؤية الصور أو تشكل الوعي أو تخلق الكائن الذي
ندعوه "أنا".
من الواضح جداً أن هناك
خالقاً خلق كل العالم المادي، أي، مجمل الأشياء المدركة، وهو مستمر في خلقه
بدون توقف. وبما أن الخالق ينشر مثل هذه المخلوقات العظيمة فلابد أن لديه
قوة وقدرة خالدة.إن الخالق يعرفنا بنفسه. لقد أرسل لنا كتاباً، ومن خلال
كتابه هذا وصف لنا نفسه والكون وسبب وجودنا.
الخالق هو الله تعالى، كتابه هو القرآن الكريم.
.
إن السّموات والأرض، أي الكون غير ثابت وجوده ممكن فقط لأن الله خلقه وسوف يختفي عندما ينهي الله الخلق، كل هذا توضحه الآية التالية:
إِنَّ
اللهَ يُمْسِكُ السَّمَواتِ وَالأرضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتَا إَنْ
أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً
[سورة فاطر: 41].
.
لا شك أن هذه الآية توضح أنّ الكون المادي هو تحت
سيطرة الله تعالى، غير أن المعنى الآخر للآية يتمثل في أن العالم المادي
الذي يراه الإنسان بما يحتويه من مظاهر لا يعلم حقيقته إلا الله عز وجلّ.
ولو أراد الله أن يخفي عن أذهاننا مظاهر العالم فإن ما نراه كله يصبح عدما
بالنسبة إلينا، ولا نستطيع أن نصل إلى شيء منه. فحقيقة كوننا لا نستطيع أن
ندرك العالم المادي ذاته هي في الواقع تجيب على السؤال الذي ما فتئ كثير من
الناس يشغلون به عقولهم وهو : "أين يوجد الله".
.
وكما ذكرنا
في البداية، فإن بعض الناس ليس لديهم فهم حقيقي عن الله فهم يتصورونه على
أنه في مكان ما من السموات ولا يتدخل فعلياً في الشؤون الدنيوية. والأساس
في هذا المنطق الخاطئ يأتي من فكرة أن الكون هو عبارة عن كتلة مادية وأن
الله هو "خارج" عن هذا العالم المادي ، في مكان بعيد جداً.
.
من
ناحية ثانية، وكما بينا حتى الآن، فإن المادة تتألف من أحاسيس فقط، أما
العالم المادي فلا أحد منا بإمكانه أن يدركه، وبالتالي فنحن لا نعرف حقيقته
على وجه الدقة. وما نعرفه فقط هو خالق هذه المخلوقات، بمعنى الله تعالى:
"إن الوجود المطلق الوحيد هو الله تعالى فقط، وكل ما سواه هو عبارة عن
ظلال". وبالتالي فإنه من المستحيل إدراك الله بصورة منفصلة وخارج كتلة
المادة بأكملها. فليس هناك شيء مثل المادة بمعنى الوجود. فالله بالتأكيد
موجود في كل مكان ومحيط بكل شيء. إن هذه الحقيقة واضحة في القرآن على النحو
الآتي:
اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا
تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ مَنْ ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ
عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَواتِ وَالأرْضَ وَلا
يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [سورة البقرة: 255].
وبما
أن الكائنات المادية كلها إدراك حسي فإنها لا تستطيع أن ترى الله، ولكن
الله يرى المادة التي خلقها بكل أشكالها، وقد جاء ذلك في القرآن على النحو
التالي:
لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ[ [سورة الأنعام: 103].
وهذا
يعني أننا لا نستطيع رؤية وجود الله بعيوننا، ولكن الله يعلم تماماً ما
نخفيه وما نعلنه وما نراه ونفكر فيه. ولهذا السبب يقول الله تعالى:
أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ [سورة يونس: 31].
إننا
لا نستطيع أن نتفوه بأية كلمة دون علمه ولا حتى أن نتنفس. وبينما نحن
نراقب هذه الإدراكات الحسية خلال سير حياتنا فإن الأقرب لنا ليس أياً من
هذه الإحساسات، إنه الله نفسه. والآية التالية من القرآن تؤكد هذه الحقيقة:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ
[سورة ق:16].
.
فعندما يفكر الإنسان أن جسمه مصنوع من المادة فقط، فهو لا يستطيع إدراك هذه الحقيقة المهمة.
فإذا افترض أن دماغه هو "ذاته"، عندئذ يصبح المكان الذي يقبل به كجزء
خارجي بعيداً عنه مسافة 20- 30 سم. وحسب هذا الاستنتاج فلن يكون هناك شيء
أقرب له من حبل الوريد. ومع ذلك فعندما يفهم أن لا شيء مثل
المادة، وأن كل شيء هو خيال، والأفكار الغامضة مثل الخارج والداخل والقريب
والبعيد، تفقد معناها. فالله محيط به وهو قريب من الله .
.
لقد أخبر الله أنه قريب من عباده :
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب) البقرة:186
وآية أخرى تتعلق بالحقيقة ذاتها:
فَلَوْلا
إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ[ [سورة الواقعة: 83 -
85].
.
والنتيجة الوحيدة التي يمكن أن
نستنتجها من مجموع الوقائع المقدمة هي أن اموجود الوحيد والحقيقي والمطلق
هو "الله"الخالق ، ويستطيع الله بمعرفته أن يحيط الإنسان الذي هو ظل كائن
مثله كمثل أي شيء آخر:
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [سورة طه: 98].
وفي آية أخرى من القرآن يحذر الله الناس من اللامبالاة:
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ. أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ [سورة: فصلت: 54].
وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ[ [سورة الإنسان: 30].
حيث
تؤكد على أنه لا يوجد عمل مستقل عن الله. وبما أن الإنسان هو ظل كائن فإنه
لا يقوم بفعل الرمي. ولكن الله منح هذا الظل الكائن الشعور "بالذات" لأن
الإنسان كائن واقع تحت سيطرة الله كلياً بصورة جلية.
.
هذه هي
الحقيقة. ربما لا يريد الإنسان أن يسلم بذلك، أو هو يعتقد أنه كائن مستقل
عن الله، ولكن هذا لا يغير شيئاً. وبالطبع فإن إنكاره الطائش هو، مرة أخرى،
خاضع لقدرة الله ورغبته. وهذه الحقيقة وردت في القرآن على النحو التالي:
أَفَغَيْرَ
دِينِ اللهِ يَبْغُونَ ولَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ
طَوْعًا وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [سورة آل عمران: 83].
الله يعلم كل شيء
.
إن
صفة الله "المحيط" تعني "يحيط بكل شيء". وبما أن الله يحيط بكل شيء، فإنه
يعلم كل شيء يتعلق بحياة الناس. لقد خلق الله كل المشاعر كالألم والغضب
والحب والسرور والحزن والسعادة، وبالتالي فإنه يعلم كل ما يتعلق بذلك
جيداً. ولأنه يعلم، فإنه يخلق ويجعل عباده يمارسون هذه المشاعر حسب مشيئته.
ولابد هنا من توضيح: إن الله بعيد كلياً عن هذه الآلام والعيوب. وصفة أخرى
من صفات الله وردت في القرآن وهي "القدوس" وتعني "أنه لا يشوبه أي خطأ أو
نسيان، وأنه بعيد عن النقصان أو أي عيب من العيوب". إن كل النواقص ترتبط
بالإنسان.
الله يحيط بكل شيء، وهو في كل مكان ويعلم خفايا أسرار كل
شيء. وهذه هي "المعرفة" في معناها الحقيقي. ولكي نستطيع تقدير عظمة الله
وسيطرته لابد لنا من استيعاب الموضوع بصورة أفضل! بما أن الله يعلم الآلام
والأوجاع وكل مشاعرنا فإن هذا يجعلنا مرة أخرى نفهم الحقيقة بأن الله هو
أقرب إلينا من حبل الوريد. إن الله يرى الإنسان أينما كان. وحتى عندما يكون
وحده في مخبأ أو في مكان سري حيث لا يراه أحد، وحتى عندما يظن أنه يعمل في
أمر سري للغاية فإن الله يراه. وقد جاء في القرآن بأن الله عالم بكل شيء:
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلامُ الْغُيُوبِ [سورة التوبة: 78].
والله
يسمع كل الكلام: وحتى عندما يعتقد الإنسان أنه يهمس بسره خلف أبواب موصدة
وجدران صلبة فإن الله يسمع. والله يعلم ما في القلب وما يخبئه عن أي شخص
آخر، وكذلك الأشياء الموجودة في ضمير الإنسان والتي هو نفسه لا يدركها. وقد
أكد القرآن هذه الحقائق:
وَإنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [سورة طه: 7].
من
الواضح أن المنطق والحقيقة العلمية تقول أن "العالم الخارجي" ليس بالحقيقة
المادية، وهو عبارة عن مجموعة صور يقدمها الله لروحنا بصورة دائمة. ومع
ذلك فإن الناس عادة لا يدخلون أو بالأحرى لا يريدون أن يدخلوا كل شيء ضمن
مفهوم "العالم الخارجي". إذا فكرت في هذا الموضوع بصدق وشجاعة فإنك ستدرك
أن بيتك وفرشك وسيارتك - ربما اشتريتها حديثاً - ومكتبك، والحلي، وحساب
المصرف، وملابسك، وزوجتك وأطفالك ورفاقك وكل ما تملكه هو في الحقيقة، مشمول
في هذا العالم الخارجي الخيالي المعروض لك. إن كل ما تراه وتسمعه وباختصار
كل ما تدركه بحواسك الخمس من حولك هو جزء من "العالم الخارجي"، مثلاً: صوت
مطربك المفضل، وقساوة الكرسي الذي تجلس عليه، ورائحة عطرك المفضل، والشمس
التي تعطيك الدفء والزهرة ذات الألوان الجميلة والعصفور الذي يقف أمام
نافذتك، وقارب السباق الذي يسير بخفة فوق الماء، وحديقتك الخصبة، والحاسب
الذي تستخدمه في عملك أو جهاز إرسالك الذي ينطوي على أحدث التقنيات
الموجودة في العالم..
هذه هي الحقيقة،
لأن العالم عبارة عن مجموعة من الصور التي خلقت لاختبار الإنسان. ويختبر
الناس طول مدة حياتهم المحدودة بأشياء حسية ليست حقيقية. وهذه الأشياء
الحسية تقدم له عمداً بصورة جميلة وجذابة، وقد ذكر القرآن الكريم هذه
الحقيقة.
.
إن معظم الناس يتخلون عن دينهم لأنهم استسلموا إلى
أموالهم وثرواتهم الزائفة، وإلى أكوام الذهب والفضة والدولارات والحلي
والحسابات المصرفية وبطاقات الائتمان والخزائن المليئة بالثياب وأحدث
موديلات السيارات. أي استسلموا لجميع أشكال الرفاهية التي إما أنهم
يملكونها أو يسعون لامتلاكها. إنهم يركزون فقط على هذا العالم وينسون
الآخرة. إنهم مخدوعون بوجه الحياة "الجميل والمغري" في هذا العالم، ويفشلون
في المحافظة على صلاتهم أو الإحسان للفقراء أو القيام بالعبادات التي
تنقذهم في الآخرة. ويقولون بدل ذلك "لدي أعمال يجب أن أقوم بها" أو"لدي
مبادئ"، أو "لدي مسؤوليات" أو "ليس لدي الوقت الكافي" أو "لدي مهام يجب أن
أنهيها" أو "سأقوم بذلك فيما بعد"، ويصرفون حياتهم في الاهتمام بهذا العالم
فقط. إن الآية التالية تعرف هذا المفهوم الخاطئ:
يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [سورة الروم: 7].
إن
الحقيقة التي نصفها في هذا الفصل، بأن كل شيء عبارة عن صورة، هي حقيقة
غاية في الأهمية لأن مضمونها يجعل كل الرغبات والحواجز بدون معنى. إن
التحقق من هذه الحقيقة يجعل من الواضح أن كل ما يراه الناس ذا قيمة، وما
يملكونه أو يسعون لامتلاكه، الثروة التي يحصلون عليها جشعاً، الأولاد الذين
يتفاخرون بهم، والأزواج الذين يعتبرونهم أقرب الناس إليهم، والأصدقاء،
وأجسادهم المترفة، وحالتهم الاجتماعية التي يعتبرونها شكلاً من التعالي،
والمدارس التي درسوا فيها، والعطل التي قضوها، كل ذلك ليس إلا وهماً، ولهذا
فإن كل الجهود والوقت الذي يقضونه إرضاءً للرغبات لا فائدة منها.
.
وهذا
هو السبب الذي يجعل بعض الناس يخدعون أنفسهم بغباء، عندما يتفاخرون
بثروتهم أو بما يملكون مثل المنصب أو طائرة الهيليوكوبتر، أو المصانع أو
الأموال أو المزارع أو الأراضي وكأنها موجودة فعلاً. هؤلاء الناس الأغنياء
الذين يبحرون باليخت الذي يملكونه متفاخرين، ويعرضون سياراتهم ولا يتوقفون
عن الحديث حول ثرواتهم، ويفترضون أن مراكزهم تجعلهم أعلى من غيرهم، يحاولون
عرض أنفسهم بملابسهم ويبنون حياتهم على هذه العواطف والمنافسات، ويظنون
أنهم ناجحون بسبب ذلك، عليهم أن يفكروا فعلاً في الوضع الذي سيجدون أنفسهم
فيه إذا أدركوا أن النجاح ليس إلا وهماً.
.
إن هذه المشاهد تتكرر
أيضاً في الأحلام. فهؤلاء الناس لديهم في أحلامهم أيضاً بيوت وسيارات سريعة
وجواهر ثمينة جداً، وكميات من دولارات، وأحمال من الذهب والفضة. كما يرون
أنفسهم في أحلامهم بمراكز رفيعة ويمتلكون المعامل وآلاف العمال، ولديهم
السلطة ليحكموا الناس ويلبسوا الملابس التي يُعجبُ بها الآخرون. ولكن كما
يسخر الحالم من التفاخر بالصور التي يراها في أحلامه، وكذلك الإنسان
المستيقظ سيكون عرضة للسخرية لتفاخره بالصور التي يراها في هذا العالم، لأن
ما يراه في أحلامه وفي هذا العالم ليس إلا مجرد صور في عقله. وهذه
الحقيقة يجب التفكير فيها بالتأكيد. إن من يدركون هذه الحقيقة سيكونون من
الناجحين كما نصت الآية التالية:
قدَ جاءَكُم بصائرُ مِنَ رَبِكُم فَمَنْ أَبصرَ فلِنَفسِه ومن عَمِيَ فَعلَيها وما أنا عليكُم بحَفيظٍ [سورة الأنعام: 104].
وبصورة
مشابهة، فإن ردة فعل الناس على الأحداث التي تمر بهم في العالم ستجعلهم
يشعرون بالخجل عندما يعرفون الحقيقة. وإن أولئك الذين يحاربون بعضهم بشراسة
ويهاجمون بعنف ويغشون ويرْشون ويزوِّرون ويكذبون ويكنزون أموالهم بأنانية،
ويؤذون الناس ويضربون ويلعنون الآخرين ويغضبون بعدوانية، ويملؤهم حب
المناصب، ويحسدون ويتفاخرون، سيصابون بالخزي عندما يعلمون بأن كل ما فعلوه
هو في عالم الأحلام.
ومن الحمق
الكبير ترك الدين جانباً من أجل عواطف خيالية، وبالتالي يخسر الإنسان
الحياة الأبدية. وأكثر من ذلك فإن ترك الدين يؤدي إلى محن دائمة. ويبين
الله تعالى حالة الناس الذين يتنكرون للدين عمداً كما يلي:
وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة هود: 16].
وكما
جاء في الآية السابقة فإن عواطف هؤلاء الناس وجشعهم سيثبت بطلانها، وإن
الأشياء التي يعتقدون بأنهم يملكونها ستضيع أمام هذه الحقيقة ولن تكون لها
أية فائدة أو قيمة.
.
في هذه المرحلة لابد من فهم نقطة واحدة. لا
يوجد ما يثبت بأن "الممتلكات والثروة التي تملكها والتي تبخل بإنفاقها، وأن
الأولاد والأزواج والأصدقاء والمركز كلها ستزول إن عاجلاً أم آجلاً، ولهذا
فليس لها أي معنى". ولكن "كل الممتلكات التي يبدو أنك تملكها هي غير
موجودة، إنها مجرد أحلام تتألف من صور يريك الله إياها كي يمتحنك". وكما
تلاحظ هناك فرق كبير بين العبارتين. إذا قبلت العبارة الأولى بمعناها
الظاهري فإن الفرد يمكن أن يضل التفكير بأن كل هذه الأشياء والناس والصلات
والعالم كلها موجودة فعلاً، رغم كونها موقتة. وربما يستمر في العمل بشراهة
من أجل امتلاكها. ولكن إذا أخذت العبارة الثانية التي تنص على الوضع
الحقيقي للأمور، وهو أن كل شيء وهم، فإن أيّ فرد كان يبدي شراهة لهذه
الأمور سيخجل من نفسه وسيعاني من خسارة لم يسبقها مثيل.
.
ورغم أن
الإنسان لا يريد الاعتراف بذلك فوراً ويفضل خداع نفسه بافتراضه أن كل شيء
يملكه موجود فعلاً، ولكنه في النتيجة سيموت وفي الحياة الآخرة سيبدو كل شيء
جلياً عندما نُبعث من جديد. في ذلك اليوم -
فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [سورة ق: 22]
وسنرى كل شيء أكثر وضوحاً. وإذا قضينا حياتنا ونحن نركض وراء أهداف خيالية فسيأتي وقت نتمنى لو أننا لم نعش هذه الحياة ونقول:
يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةُ، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَه هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَه
[سورة الحاقة: 27- 29].
من
ناحية أخرى، ما يجب أن يفعله المرء العاقل هو محاولة فهم أكبر لحقيقة
الكون في هذا العالم، وهو لايزال لديه متسع من الوقت. وإلا سيقضي كل حياته
وهو يركض وراء أحلامه ويواجه العقوبة المؤلمة في النهاية. إن نهاية هؤلاء
الناس الذين يركضون وراء أوهام (أو سراب) في هذا العالم وينسون خالقهم قد
بينها القرآن الكريم، قال تعالى :
وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَعْمَالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حتَّى إِذَا
جَاءَهُ لَمْ يَجِدْ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ
حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة النور: 39].
ما هو الفرق بين عالم الأحلام والعالم الذي ندركه الآن؟
الحقيقة
بالنسبة إلى بني البشر هي كل ما يمكن لمسه باليد ورؤيته بالعين. وقد ذكرنا
من قبل أن أعضاءنا تضللنا، كما أشرنا بأننا لا نستطيع، علمياً، الوصول إلى
حقيقة العالم الخارجي. إن كوْنَ الإدراكات الحسية الذي نسكنه يمكن تفسيره
أيضاً باستخدام مقياس الحلم. تستطيع في أحلامك أيضاً أن تلمس بيدك وترى
بعينك، ولكن في الحقيقة، ليس لديك يد ولا عين ولا حتى أي شيء يمكن لمسه أو
رؤيته. فليس هناك حقيقة مادية خارج عقلك لكي تحقق هذه الأشياء. إنك ببساطة
مجرد كائن ضال.
.
ما هو الشيء الذي يفصل الحياة الحقيقية عن الأحلام ؟
هل هو أن الحياة الحقيقية مستمرة وأن الأحلام منفصلة، أو بالأحرى هناك
علاقات مختلفة بين السبب والنتيجة في الأحلام؟ ليس هناك اختلافات أساسية في
الجوهر.. وبالنتيجة كلا الحالتين من الحياة قد تحققت داخل الدماغ.
.
إذا
كان باستطاعتنا العيش بسهولة في عالم وهمي من خلال أحلامنا فإن الشيء نفسه
يمكن تحقيقه في العالم الذي نعيش فيه ونحن مستيقظون، عندما نستيقظ من
حلمنا لا نستطيع التأكد مطلقاً أننالم ندخل حلماً أطول يسمى "الحياة
الحقيقية"والسبب الذي يجعلنا نعتبر حلمنا مجرد هلوسة والعالم بأنه "حقيقي"
ليس إلا نتيجة لعاداتنا وتحيزنا.
.
وهذا يشير إلى أننا يمكن أن نكون
قد استيقظنا تماماً من هذه الحياة على الأرض، التي نعتقد أننا نعيشها الآن،
تماماً كما استيقظنا من الحلم. هذه النقطة مهمة جداً وتحتاج بالتأكيد إلى
التفكير فيها ملياًّ.
ولا أي شيء يمكن لمسه أو رؤيته. ليس هناك حقيقة مادية لكي تحصل هذه الأشياء ماعدا دماغك. وببساطة فأنت قد ضُللت
ماهو
الشيء الذي يفصل الحياة الحقيقية والأحلام عن بعضهما البعض؟ بصورة أساسية
فإن كلا النوعين من الحياة يصلان إلى الكائن من خلال الدماغ. وإذا كنا
قادرين على العيش بسهولة في عالم غير حقيقي من خلال أحلامنا، فإن الشيء
نفسه يمكن أن يكون صحيحاً بالنسبة إلى العالم الذي نعيشه ونحن مستيقظون.
فعندما نستيقظ من حلم فليس هناك من سبب منطقي لكي لا نفكر أننا دخلنا حلماً
أطول اسمه "الحياة الحقيقية".
والسبب الذي يدعونا لاعتبار حلمنا
هلوسة والعالم "حقيقي" هو فقط نتيجة عاداتنا وحكمنا المسبق. وهذا يشير إلى
أنه يمكن أن نكون قد استيقظنا تماماً من الحياة على الأرض، التي نعتقد
بأننا نعيشها الآن، كما استيقظنا من الحلم.
.
ولذلك من المفيد أن
نفكر في مثال الأحلام بصورة أعمق. فالإنسان يستطيع ممارسة حوادث حقيقية
جداً في الحلم. ويمكن أن يسقط الحالم من على الدرج أو يكسر ساقه أو يتعرض
لحادث سيارة عنيف، أو يكبل تحت باص، أو يأكل كعكاً فيشبع. ويمكن ممارسة
أحداث مشابهة لتلك التي نمارسها في حياتنا اليومية أثناء أحلامنا وبالإحساس
المقنع نفسه في حقيقتها، كما يثير فينا الشعور نفسه. وهذا يدلنا على أن
الإدراكات الحسية كالذوق والطعم واللمس، أو الشعور بالقساوة لا يمكن أن
تكون دليلاً على الوجود الحقيقي للمادة، لأن هذه المشاعر نمارسها في
أحلامنا بالحدة نفسها. وعلى أي حال فإن من يؤمنون بالمادة على أنها الوجود
المطلق بصورة كلية لا يمكنهم استيعاب هذه الناحية. ولكي يستطيعوا إثبات
وجود المادة أعطوا أمثلة مشابهة لتلك الأمثلة التي سقناها سابقا. وحسب
تفكيرهم الملتوي، فإن شعورهم بالألم عندما يركلون حجراً، أو عندما يُصفعون
على الوجه، وشعورهم بالامتلاء عندما يأكلون الكعك، أوالهرب عند رؤية باص
سريع على الطريق لكي لا يصدمهم، كل ذلك دليل على وجود المادة. والنقطة التي
لم يستطيعوا فهمها هي أن الألم الذي يشعرون به عندما يركلون حجراً، والطعم
الذي يتذوقونه عندما يأكلون الكعك والإدراك الحسي بالقساوة والألم
الفيزيائي الذي يشعرون به عند الاصطدام بالباص تتشكل أيضاً في الدماغ.
.
إن
الشخص الذي يحلم بأن الباص قد ضربه يمكن أن يفتح عينيه فيجد نفسه في
المستشفى، مرة أخرى في حلمه، ويستوعب بأنه أصبح عاجزاً وكل ذلك في حلمه.
كما يمكنه أن يحلم بأنه توفي نتيجة لحادث سيارة، وملائكة الموت قد قبضت
روحه، وحياته الآخرة قد بدأت (وهذه الحادثة الثانية يمكن أن تمارس كما لو
كانت في الحياة، والتي هي عبارة عن إدراك حسي، تماماً كالحلم). إن هذا
الشخص يدرك بحدة الصور والأصوات وشعور الصلابة و الضوء والألوان وكل
المشاعر الأخرى المتربطة بالحادثة التي يمارسها في حلمه.
.
إن
الإدراكات الحسية في حلمه هي إدراكات طبيعية تماماً كالحياة "الحقيقية".
فالكعكة التي يأكلها في الحلم تشبعه بالرغم من كونها مجرد إدراك حسي في
حلم، لأن الشعور بالشبع هو أيضاً إدراك حسي في حلم. ومع ذلك ففي الحقيقة
فإن هذا الشخص يرقد في سريره في تلك الدقيقة. ولا يوجد درج أو مواصلات أو
باصات لأخذها بالحسبان. إن الشخص الحالم يمارس إدراكات حسية ومشاعر غير
موجودة في العالم الخارجي. والواقع أننا من خلال أحلامنا نمارس ونرى ونشعر
بأحداث ليس لها روابط فيزيائية "بالعالم الخارجي"، بصورة واضحة بحيث تبين
أن العالم الخارجي الذي نعيشه في يقظتنا يتألف أيضاً من مجرد إدراكات حسية
بصورة تامة. وسواء أكان ذلك في الحلم أم في الحياة اليومية، فإن كل الأشياء
المرئية والممارسة والتي نشعر بها هي إدراكات حسية.
.
لنبحث في مثال
حادثة الباص: إذا كانت أعصاب الشخص الذي صدمه الباص التي تنتقل من حواسه
الخمس إلى دماغه، متصلة بدماغ شخص آخر على التوازي، وفي اللحظة التي صدمه
فيها الباص، فإن الصدمة ستؤثر أيضاً على الشخص الجالس في بيته، وفي الوقت
نفسه فإن جميع المشاعر التي يمارسها الشخص ضحية الحادث سيمارسها الشخص
الجالس في بيته، تماماً كالأغنية التي تسمع من مكَبّري صوت مختلفين
ومربوطين إلى المسجلة نفسها. إن الشخص الجالس في بيته سيشعر بضربة الباص
ويراها ويحس بها ويمارسها، ويشعر بتأثيرها على جسمه، وكذلك صور ذراعه
المكسور والدم، والكسور، وصور دخوله إلى غرفة العمليات وقساوة جبيرة الجبس،
وضعف ذراعه.
.
كل الأشخاص المتصلين بالتوازي مع أعصاب هذا الرجل
سيشعرون بالحادث من البداية إلى النهاية. وإذا أصبح الرجل في حالة سبات،
فإنهم سيصبحون في حالة سبات أيضاً. بل أكثر من ذلك إذا سجلت الإدراكات
الخاصة بحادث الباص، وإذا نقلت هذه الإدراكات إلى شخص ما بصورة متكررة فإن
الباص سيصدمه عدة مرات.
.
إذن أي باص من الاثنين هو الذي صدم الناس
في الحقيقة؟ الفلسفة المادية ليس لديها جوابٌ ثابتٌ على هذا السؤال.
والجواب الصحيح هو أن الجميع قد مارسوا حادثة السيارة بكامل تفاصيلها داخل
أدمغتهم.والمبدأ نفسه ينطبق على مثالي الكعكة والحجر. فإذا تم وصل أعصاب
الأعضاء الحسية للشخص الذي شعر بالتخمة والشبع في معدته بعد أكله الكعك،
بالتوازي مع دماغ شخص آخر، فإن هذا الآخر سيشعر أيضاً بالشبع عندما يأكل
الأول الكعك ويشعر بالشبع. وإذا تم وصل أعصاب الشخص ذي العقيدة المادية
الذي شعر بالألم في قدمه عندما ضرب الحجر بقوة، بالتوازي مع شخص آخر، فإن
هذا الآخر سيشعر بالألم بنفسه.
.
وبالتالي أي كعكة أو أي حجر هو
الحقيقي؟ ومرة أخرى تعجز الفلسفة المادية عن إعطاء جواب ثابت عن هذا
السؤال. إن الجواب الصحيح والثابت لذلك هو: أن كلا الشخصين قد أكلا الكعك
في دماغهما وشعرا بالشبع، وكلا الشخصين قد مارسا لحظة ضرب الحجر في
دماغهما.
.
في هذه الحالة لا يستطيع الإنسان تجاوز حواسه والتهرب
منها. ومن الممكن، كما جاء في الأمثلة المذكورة أعلاه، تعريض روح الإنسان
لجميع أمثلة الحوادث الفيزيائية التي ليس لها جسم ولا وجود أو وزن مادي.
وليس من السهل على الإنسان إدراك ذلك، لأنه يفترض بأن هذه الصور الثلاثية
الأبعاد هي حقيقية، وهو متأكد من وجودها لأنه، مثل أي شخص آخر، يعتمد على
أعضائه الحسية. وقد كشفت هذه الأمثلة بوضوح بأنه لا يوجد فرق واضح بين
الأحلام والحياة الحقيقية. ولهذا لا يمكننا التأكد مطلقاً بأن الحياة التي
نعيشها الآن ليست نوعاً من الحلم.
لماذا لا يدركون؟
الموضوع
الذي أوضحناه حتى الآن هو أحد أكبر الحقائق التي ستعرفها في حياتك. وإثبات
أن العالم المادي هو في الحقيقة "ظل الحياة"، فإن هذا الموضوع هو المفتاح
لفهم وجود الله تعالى وخلقه، وكذلك لفهم أن الله هو وحده الكائن الكامل.
.
والإنسان
الذي يفهم هذا الموضوع، يدرك أن العالم ليس هو المكان الذي يفكر معظم
الناس فيه. فالعالم ليس بالمكان المطلق ذي الوجود الحقيقي كما يفترضه أولئك
الذين يطوفون في الشوارع بدون هدف ويتشاجرون في الحانات، ويتفاخرون في
المقاهي الفخمة ويقضون حياتهم في أحاديث لا فائدة منها ويتباهون بأموالهم.
إن هؤلاء يتعاطون مع عواطفهم اليائسة والأنانية أو أنهم يكرسون حياتهم
لأهداف فارغة. إن العالم عبارة عن إدراكات حسية ووهم. وجميع الناس الذين
ذكرناهم، مهما كانت مراتبهم، ليسوا إلا ظل كائنات يراقبون هذه الإدراكات
بعقولهم، ومع ذلك، فهم غافلون عن ذلك.
إن الزمن هو إدراك حسي. ويمكن إدراكه بصورة مختلفة لدى أشخاص مختلفين وفي ظروف مختلفة.
.
إن
الحقائق المبينة هنا هي ثابتة مثل القوانين الفيزيائية أو المعادلات
الكيميائية. ويستطيع الناس، عند الضرورة، حل حتى أصعب المسائل الرياضية،
وفهم العديد من المواضيع التي تبدو صعبة الفهم، ومع هذا فعندما يعلم الناس
أنفسهم بأن المادة ليست إلا صورة تشكلت في الدماغ فإنهم يترددون في قبول
ذلك. وهذه حالة من الغباء المطلق. إن فهم الموضوع المطروح هو بسهولة
الإجابة نفسها على سؤال مثل "ما هو ضعف العدد اثنان؟" أو كم عمرك؟ أو
بسهولة الإجابة، عندما نشرب كأساً من الماء، على سؤال: "بماذا تشرب الماء؟"
لأن هذه الحقائق قد أثبتها العلم اليوم.
.
إذا سألت أخصائياً في
مجال الطب كيف تعمل العين، فإنه يستطيع أن يشرح لك المواضيع الفنية التي
وصفناها هنا بالتفصيل. ومع ذلك فإنه لا يعترف بما هو بديهي بالنسبة إلى
نتيجة هذه المعلومات الفنية. إنه لا يسلم أبداً بقول "نعم" لقد تشكلت
الصورة في دماغي، وبالتالي فإن من المستحيل بالنسبة إليّ أن يكون لدي فكرة
مؤكدة عما يحدث في الخارج. أو إذا سألت ذلك الشخص "أين القمر؟"، فسينظر إلى
الأعلى ويقول: "إن القمر موجود في الأعلى على بعد ملايين الكيلومترات".
ولكنه لا يستطيع أبداً أن يقول: "القمر موجود فعلاً في دماغي". إنه يدعي
الجهل، لأن قبول هذه الحقيقة أو الإعلان عنها سيكشف عن حقيقة هامة جداً
بالنسبة إليه. وبما أن كل شيء عبارة عن وهم تشكل في الدماغ ومنح له، إذن
هناك خالق جعله يرى هذه الصور.
.
وهذا هو السبب الذي يجعل شخصاً ما،
قضى سنوات طويلة في الدراسة، وأصبح معروفاً بأنه يملك أعظم درجات التخصص في
مجال ما، وتؤخذ استشارته في مواضيع عديدة ويفتخر بذكائه، لا يستطيع فهم
مثل هذه الحقيقة الواضحة. إن هذا الموضوع يذكر هؤلاء الناس بالدين، ويدعوهم
للتنبه لوجود الله وقوته اللامتناهية والمحيطة بكل شيء، وأنه المالك
الوحيد لكل شيء. ولهذا السبب يوسوس الشيطان للناس كي لا يفكروا في هذا
الموضوع. وكما جاء في القرآن الكريم عن قوم سبأ:
...وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [سورة النمل: 24]،
.
إن
الرسالة الواردة في الآية هي إعجاز قرآني. ويشير الله في كتابه إلى وجود
أشخاص لديهم معلومات واسعة ويستطيعون فهم المواضيع الفنية، ومع ذلك لا
يستطيعون فهم الحقيقة الواضحة حول حقيقة طبيعة المادة رغم أنها وصفت لهم
بطرق مختلفة. والآية التالية بهذا الخصوص تتنبأ بمصيرهم :
إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى
سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
[سورة البقرة: 6ـ 7].
إذن،
فالله يسمح لبعض الناس بإدراك هذا الموضوع. ومع ذلك فإن أولئك الذين
يهربون من الحقيقة اليوم يجب أن يعلموا بأن هذه الحقيقة العلمية ستكسب
قبولاً عاماً خلال السنوات القليلة القادمة في جميع أنحاء العالم. وسيفهم
الناس بالتأكيد أنهم يعيشون في عالم خيالي يظهر أمامهم كالمسرحية. وعندما
يقرر الله الزمن سيكشف النقاب عن عيون الناس ويريهم أن أقرب الكائنات لهم،
وأن كل شيء، ماعدا وجوده، ليس إلا حلماً. وسيستوعب الناس تماماً هذه
الحقيقة الخاصة بسر ما وراء المادة. وكذلك حقائق أخرى وردت في القرآن
الكريم.
خاتمة:
إن الموضوع الذي
قمنا بإيضاحه حتى الآن هو من أعظم الحقائق التي يمكن أن تدركها في
حياتك.ويمكنك تقصي ما وراء هذه الناحية بقوة تفكيرك الشخصي. ولهذا يجب أن
تركز انتباهك إلى الطريقة التي ترى بها الأشياء المحيطة بك وماذا تشعر
عندما تلمسها. وإذا فكرت بانتباه، فإنك ستشعر بأن الإنسان الذكي الذي يرى
ويسمع ويلمس ويفكر ويقرأ هذا الكتاب في هذه اللحظة هو ليس إلا روحاً تراقب
الإدراكات الحسية المسماة "بالمادة" على الشاشة. إن من يدرك ذلك يعتبر أنه
قد ابتعد عن محيط العالم المادي الذي يخدع السواد الأعظم من الإنسانية،
وأنه قد دخل عالم الوجود الحقيقي.
.
لقد فهم عدد من الموحدين
والفلاسفة هذه الحقيقة عبر التاريخ. فإنّ جميع الموجودات إذا قيست بحقيقة
الله تعالى هي عبارة عن "وجود ظل" ، واستطاع بعض الفلاسفة الغربيين مثل
جورج بركلي فهم الحقيقة نفسها من خلال العقل.إذن كل الكون المادي هو "وهم
وافتراض (إدراك حسي)"، وأن الوجود المطلق الوحيد هو الله تعالى.
.
"...إن
جوهر الكائنات التي خلقها الله هو العدم.. لقد خلق الله الجميع في عالم
الحواس والأوهام.. إن وجود الكون هو عالم الحواس والأوهام، وليس المادة..
في الحقيقة لا يوجد أحد سواه سبحانه تعالى .
المراجع :
19. Henri Bergson, Matter and Memory, Zone Books, New York, 1991
20. David Hume, A Treatise of Human Nature, Book I, Section IV:Of Personal Identity
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق