مَن الخالق؟
أوصلنا
الدليل العقلي إلى وجود خالق للكون؛ فمن هو هذا الخالق؟ إنه لا يمكن عقلاً
أن يكون شيئاً غير الخالق الحق الذي تدركه الفطرة والتي دعت إلى عبادته
رسل الله, أي إن الخالق الذي أوصلنا إليه الدليل العقلي هو الخالق نفسه
الذي يحدثنا عنه النص الديني. ولا غرابة في ذلك؛ لأن الله الذي خلق الكون
وجعله دليلاً على وجوده, هو الذي أنزل الكتاب مصدقاً لشهادة الكون ومفصلاً
لها.
وإليك أدلة ذلك:
لقد استنتجنا من وجود الأشياء الحادثة وجود
خالق لها وبعض صفات هذا الخالق, ويمكن أن نستنتج من تلك الصفات صفات أخرى
هي صفات الخالق الحق سبحانه, من هذه الصفات:
أولاً: صفة الخالقية نفسها, وهي التي وردت في مثل قوله -تعالى-:
(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) { الزمر:62 }
(هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ){الحشر:24}
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) {العلق: 1-2}
(وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ) {السجدة:7}
( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) {البقرة:117}
ثانياً: كونه أزلياً.
لكن هناك صفات أخرى يمكن استنتاجها عقلياً من هاتين الصفتين, وصفات يمكن استنتاجها من تلك الصفات المستنتجة, نذكر بعضها فيما يلي:
ثالثاً : صفة الأبدية, ذكرنا من قبل البرهان الدال على أن صفة الأزلية تستلزم صفة الأبدية, فلا نعيده هنا.
وما أسميناه بالأزلية والأبدية هما الصفتان الواردتان في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) {الحديد:3}
فالله
تعالى سابق في وجوده لكل موجود سواه فهو بهذا المعنى أول, وباق بعد زوال
كل مخلوق زائل فهو بهذا المعنى آخر. و إلى هذا المعنى يشير قوله
- تعالى -: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) {الرحمن: 26-27}
وإليه يشير قول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)(1).
رابعاً:
وإذا كان كل ما في الوجود – ما عدا الموجود الأزلي – حادثاً, وكان هو
سبباً لكل حادث؛ فلا حادث يعتمد اعتماداً كلياً على حادث غيره , لا في
مجيئه إلى عالم الوجود, ولا في استمراره موجوداً. وإذن فكما أن الموجود
الأزلي خالق الحوادث وموجدها, فهو حافظها وراعيها؛ وهذا هو معنى الربوبية.
فالله - تعالى - خالق بمعنى أنه يكوِّن الأشياء ويوجدها, وهو أيضاً ربٌّ
وحافظ
ومقيت .. إلخ , بمعنى أنه الذي تعتمد عليه المخلوقات في استمرار وجودها.
وهذا هو المعني بآيات مثل قوله – تعالى -:
(وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) {الحج:65}
(وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) {البقرة:255}
(وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا) {هود:6}
(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) {الزمر:62}
وإذا كان كل شي سواه مخلوقاً له، فهو معتمد في استمرار وجوده عليه.
وهذا معنى صفة القيُّومية التي وردت في مثل قوله- تعالى-:
(اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) {البقرة:255}
(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) {طه:111}
لأن القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره.
خامساً:
الأحدية. الخالق الأزلي الأبدي القيوم لا بد أن يكون واحداَ، واحداً في
ذاته وصفاته، فلا ثاني له يماثله، وواحداَ في أفعاله، لا يشركه في فعلها
شيء، لأنه لو أشركه:
فإما أن يكون الأثر معتمداً عليهما معاً، بحيث إن
أحدهما لا يستطيع الاستقلال به، وفي هذه الحال يكون كل منهما عاجزاً
معتمداً في فعله على غيره؛ لأن كلا منهما ما كان ليستطيع الفعل لولا موافقة
الآخر أو مساعدته، لكن الدليل ساقناً من قبل إلى أن ما كان أزلياً لابد أن
يكون قائماً بنفسه مستقلاً عن غيره، وإذن فالذي يعتمد في فعله على غيره لا
يكون أزلياً بل يلزم أن يكون حادثاً.
وإما أن يضاد عمل احدهما عمل
الآخر، وبذلك، ومن باب أولى، تنتفي عنهما صفة الأزلية. هذا الدليل هو الذي
كان يسميه نظار المسلمين دليل (التمانع)، وقد قرره شيخ الإسلام تقريراً
موجزاً وافياً فقال: ((وذلك أن هؤلاء النظار قالوا: إذا
قدر رَبَّان متماثلان، فإنه يجوز اختلافهما، فيريد أحدهما أن يفعل ضد مراد
الأخر؛ وحينئذ، فإما أن يحصل مراد أحدهما،أو كلاهما، أو لا يحصل مراد واحد
منهما0 والأقسام الثلاثة باطلة0 فيلزم انتقاء الملزوم0
فأما
الأول: فلأنه لو وجد مرادهما للزم اجتماع الضدين، وأن يكون الشيء الواحد
حياً ميتاً، متحركاً ساكناً، قادراً عاجزاً، إذا أراد أحدهما أحد الضدين
وأراد الآخر الضد الآخر0
وأما الثاني: فلأنه إذا لم يحصل مراد واحد منهما ،لزم عجز كل منهما؛ وذلك يناقض الربوبية
وأيضاً فإذا كان المحل لا يخلو من أحدهما، لزم اختلاف القسمين المتقابلين، كالحركة والسكون، والحياة والموت، فيما لا يخلو عن أحدهما.
وإن نفذ مراد أحدهما دون الأخر، كان النافذ مراده هو الرب القادر، والآخر عاجزاً ليس برب؛ فلا يكونان متماثلين.
فلما
قيل لهم: هذا إنما يلزم إذا اختلفت إرادتهما، فيجوز اتفاق إرادتهما.
أجابوا بأنه إذا اتفقا في الآخرة(1)، امتنع أن يكون نفس ما فعله أحدهما نفس
مفعول الآخر؛ فإن استقلال أحدهما بالفعل والمفعول يمنع استقلال الآخر به،
بل لابد أن يكون مفعول هذا متميزاً عن مفعول هذا0 وهذا معنى قوله - تعالى
-: إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ {المؤمنون:91}(2).
وهذا ممتنع لأن العالم مرتبط ارتباطاً يوجب أن فاعل هذا ليس هو مستغنياً عن فاعل الآخر , لاحتياج بعض أجزاء العالم إلى بعض0
وأيضاً
فلا بد أن يعلو بعضهم على بعض؛ فإن ما ذكرناه من جواز تمانعهما, إنما هو
مبني على جواز اختلاف إرادتهما, وذلك أمر لازم من لوازم كون كل منهما
قادراً؛ فإن كانا قادرين, لزم جواز اختلاف الإرادة0
وإن قدر أنه لا
يجوز اختلاف الإرادة , بل يجب اتفاق الإرادة , كان ذلك أبلغ في دلالته على
نفي قدرة كل واحد منهما, فإنه إذا لم يجز أن يريد أحدهما ويفعل إلا ما
يريده الآخر ويفعله, لزم ألا يكون واحد منهما قادراً إلا إذا جعله الآخر
قادراً, ولزم ألا يقدر أحدهما إلا إذا لم يقدر الآخر.
وعلى التقديرين
يلزم ألا يكون واحد منهما قادراً, فإنه إذا لم يمكنه أن يريد ويفعل إلا ما
يريده الآخر ويفعله, والآخر كذلك , وليس فوقهما أحد يجعلهما قادرين مريدين؛
لم يكن هذا قادراً مريداً حتى يكون الآخر قادراً مريداً.
ـــــــــــ
(1) هكذا في الأصل المطبوع, ولعلها (الإِرادة)
(2)
(مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا
لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) {المؤمنون: 91}.
______________
وحينئذ
فإن كان كل منهما جعل الآخر قادراً مريداً, كان هذا دوراً قبلياً, وهو دور
الفاعلين والعلل, كما لو قيل: لا يوجد هذا حتى يوجده هذا, ولا يوجد هذا
حتى يوجده الآخر؛ فإن هذا محال ممتنع في صريح العقل)(1).
______________
(1) درء تعارض العقل والنقل, ج9:ص55-57__________________
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ
((
لو حدثت كارثة قضت على المعرفة العلمية وكان بالإمكان تمرير جملة واحدة
فقط إلى الجيل التالي فسوف تكون النظرية الذرية التي تنص على أن كل الاشياء
مصنوعة من ذرات وهي جسيمات صغيرةوتتحرك بصورة دائمة جاذبه بعضها البعض
ولكنها تتنافر اذا حاولنا الصاق بعضها ببعض))ريتشارد فاينمان
سادساً:
نأتي الآن إلى صفة عظيمة الشأن لأنها ستكون المفتاح لما يليها من صفات،
والبرهان الحاسم على أن الموجود الأزلي الذي قادنا إليه البرهان هو الإله
الذي يحدثنا عنه القرآن.
ولنبدأ بسؤال: كيف تصدر المخلوقات عن ذلك الخالق الأزلي؟
إننا
نعرف من تجربتنا طريقتين لصدور الحوادث: فالأشياء الجامدة، وبعض الأشياء
الحية تصدر عنها آثارها صدوراً طبيعياً أو قل قسرياً، وأما بعض الأشياء
الحية الأخرى - وأرقاها الإنسان - فإن بعض آثارها تصدر عنها صدوراً
إرادياً؛ فهل تصدر الحوادث عن الخالق صدوراً قسرياً يقتضيه طبعه من غير
شعور منه ولا تدبير، أو أنها تصدر عنه بإرادته إن شاء فعل وإن شاء ترك؟
كيف يمكن لهذه الحوادث المختلفة التي نشاهدها أن تصدر عن الخالق صدوراً يقتضيه طبعه من غير شعور منه ولا قصد ولا إرادة؟
دعنا
نحاول فهم ذلك بأن نأخذ مخلوقاً واحداً - وليكن الإنسان - ولنتساءل: كيف
أوجده الخالق؟ إذا قلنا إن وجود الإنسان أمر تقتضيه طبيعة الخالق، فيلزمنا
القول بأن الإنسان أزلي مع الخالق؛ لأنه من المستحيل عقلاً أن يوجد الشيء
ولا يوجد معه الشيء الذي تقتضيه طبيعته.
لكننا نعرف أن عمر الإنسان
ليس من الأزلية في شيء، بل هو عمر لا يتجاوز بضع آلاف من السنين؛ فكيف
تأخر عن الخالق شيء تقتضي طبيعته وجوده؟ قد يقال إن طبيعته اقتضت وجوده في
الوقت الذي وجد فيه من غير تقدم ولا تأخر. لكن هذا قول من لا يتصور معنى
الأزلية ولا معنى الاقتضاء؛ لأننا إذا فرضنا الشيء موجوداً من غير أن يوجد
معه ما يقتضيه طبعه, فكأننا فرضناه موجوداً بطبع غير طبعه.
______________
(1) درء تعارض العقل والنقل, ج9:ص55-57
______________
وإذا
لم نقل أنه يقتضيه طبعه؛ فماذا نقول؟ أنقول إنه يحدث آثاره كما تحدث
المخلوقات الطبيعية آثارها, كالمطر الذي ينبت الزرع, والزرع الذي يخرج
الثمر, والدفع الذي يحرك الساكن, والضرب الذي قتل .. وهكذا؟ لكنك إذا تأملت
هذه الأسباب الطبيعية وجدتها - كما كان يقول علماؤنا - لا تستقل بفعل؛ بل
إن أفعالها كلها تعتمد على توفر شروط خارجة عنها. فالمطر لا ينبت الزرع إلا
إذا كان السحاب قد ساقه إليه, وإلا إذا كانت درجة الحرارة مناسبة
لتحول السحاب إلى قطرات ماء, وإلا إذا كانت هناك جاذبية تسمح بسقوطه لا
بقائه معلقاً في الهواء, وإلا إذا كانت هناك أرض صالحة للزرع, وإلا إذا كان
فيها بذر صالح للإنبات, وإلا إذا توفر له الأكسجين, وهكذا وهكذا إلى ما لا
يكاد يحصر من هذه الشروط أو الأسباب الخارجة عن نطاق الماء النازل من
السماء.
فإذا قلنا إن الخالق أيضاً لا يخلق إلا بمثل هذه الشروط
والأسباب الخارجة عن قدرته؛ لم يعد هو الخالق الذي ساقنا إليه دليلنا؛ لأن
الدليل ساقنا إلى خالق هو خالق لكل شيء, فمن التناقض أن نقول إنه خالق لكل
شيء، ثم نقول إنه لا يخلق إلا بشروط وأسباب خارجة عن إرادته. من الذي خلق
تلك الأسباب؟ إذا لم يكن الخالق خالقاً بالمعنيين اللذين ذكرناهما؛ فلم يبق
إلا أن يكون خالقاً بالإرادة ؛ إذاً فهذا الخالق مريد. وهذا هو الوصف الذي
ورد وصفه به في القرآن الكريم:
(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) {يس:82}
(إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) { المائدة:1}
(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) {هود:107}
(إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) {الحج:14}
(وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ) {المائدة: 17}
(إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء) {الحج:18}
(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَار ُ) {القصص:68} __________________
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ
((
لو حدثت كارثة قضت على المعرفة العلمية وكان بالإمكان تمرير جملة واحدة
فقط إلى الجيل التالي فسوف تكون النظرية الذرية التي تنص على أن كل الاشياء
مصنوعة من ذرات وهي جسيمات صغيرةوتتحرك بصورة دائمة جاذبه بعضها البعض
ولكنها تتنافر اذا حاولنا الصاق بعضها ببعض))ريتشارد فاينمان حاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1965
سابعاً:
إذا كان مريداً فيلزم أن يكون عالماً؛ لأن الإرادة تستلزم العلم. كيف تريد
ما لا تعلم؟ إن من يفعل شيئاً بغير علم لا يقال إنه أراده, بل يستشهد بعدم
علمه بما فعل على عدم إرادته له؛ وما دام هذا الخالق هو الخالق لكل شيء
فيلزم أن يكون عالماً بكل شيء.
(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) {الملك:14}
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) {البقرة:29}
ثامناً:
وعلمه بما في مخلوقاته من أشكال وألوان وأحوال يقتضي أن يكون سميعاً
بصيراً؛ ولذلك فكثيراً ما يقرن القرآن الكريم بين صفتي العلم والسمع,
والسمع والبصر.
(وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) {الأنعام : 115}
(وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) {الأعراف200}
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي
بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) {الإسراء:1}
(وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ) {غافر:20}
تاسعاً:
وإذا كان عالماً مريداً سميعاً بصيراً، فلابد أن يكون حياً؛ لأن صفة
الحياة من لوازم هذه الصفات، أعني أن الشيء لا يمكن أن يكون مريداً عالماً
سميعاً بصيراً، ويكون مع ذلك ميتاً أو جماداً، بل لابد أن يكون حياً وأن
تكون حياته أرقى أنواع الحياة.
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا) {الفرقان:58}
(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) {طه:111}
(هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) {غافر:65}هذا
القدر من الصفات يكفي الآن لبيان أن الخالق الذي دلنا العقل على وجوده هو
الخالق الذي دعانا الشرع للإيمان به وعبادته مع أن صفات غيرها كثيرة مذكورة
في الكتاب والسنَّة الصحيحة؛ وعليه فإن كل محاولة لجعله مادة من المواد أو
كائناً من هذه الكائنات إنما هو شطط من القول .
ننتقل الآن إلى الحديث عن الذات الحاملة لهذه الصفات فنقول:الأمور التي نتحدث عنها نوعان: نوع له وجود خارجي مستقل عن أذهاننا، فهو موجود سواء علم الناس أو غيرهم من المخلوقات بوجوده أم لم يعلموا، ونوع لا وجود له إلا في أذهاننا؛ فهو لا يوجد إلا إذا وجدت الأذهان. وليس هنالك من نوع ثالث، وإنما هو العدم المحض.
مثال النوع الأول:
هذه المخلوقات التي نشاهدها من أناس وحيوانات وبحار وأنهار، وما لا نشاهده
كالمخلوقات التي تسكن قاع البحار، وكالمخلوقات التي أخبرنا عنها ربنا ولم
نرها من ملائكة وجن، وجنة ونار.
ومثال النوع الثاني: مايتعاورنا
من أحوال نفسية من سرور وحزن، وحب وكراهية، ورجاء ويأس؛ وما نستحدثه
بخيالنا من كائنات كالغول والعنقاء؛ وما نتصوره معان مجردة كالزيادة
والنقصان؛ وما نجرده من الموجودات كجنس المادة وجنس الإنسان، أعني المادة
التي لا تتصف بصفة من الصفات، والإنسان الذي يشار إليه ببنان.
الموجودات
كلها - سواء ما كان منها له وجود حقيقي موضوعي أو وجود ذهني - لها خصائص
تميزها عن المعدومات. أهم هذه الخصائص كونها توصف بصفات ثبوتية؛ فالنهر
عميق أو ضحل، طويل أو قصير، كثير التعرج أو قليله، والفكرة التي في الذهن
واضحة أو غامضة، معقدة أو بسيطة، حسنة أو خبيثة.
فالموجودات كلها تتميز
إذن عن المعدومات بكون الأخيرة لا يمكن أن توصف بصفة ثبوتية، ويمكن أن توصف
بما لا نهاية له من الصفات السلبية. فإذا لم يكن الشيء موجوداً، بل كان
معدوماً، أمكن بأن نقول عنه إنه ليس بطويل ولا قصير، ولا فوق ولا تحت، ولا
في هذه الجهة ولا تلك، ولا مادة ولا روح, ولا تراه الأعين ولا تسمعه
الآذان، ولا تلمسه الأيدي ولا تشمه الأنوف، ولا يتحرك
ولا يسكن، وهكذا وهكذا إلى ما لا نهاية له من هذه السلوب.
وللموجودات
الخارجية الموضوعية خصائص تميزها ليس عن المعدومات فحسب، بل عن الموجودات
الذهنية - إن صحت تسميتها بالموجودات. مما يميزها كونها لها ذوات تَحْمِل
صفاتها، ولها صور تميز كلاً منها عن غيره من الموجودات. ومن أهم خصائصها
كونها مما يمكن - من حيث المبدأ - مشاهدته والإشارة إليه؛ فهي بهذه الصفة
كلها محسوسات, وما لا يمكن مشاهدته على الإطلاق, وتحت أي ظرف من الظروف,
وبأي موجود من الموجودات؛ فلا وجود حقيقي له، بل إما أن يكون عدماً أو يكون
أمراً ذهنياً مجرداً.
__________________
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ
((
لو حدثت كارثة قضت على المعرفة العلمية وكان بالإمكان تمرير جملة واحدة
فقط إلى الجيل التالي فسوف تكون النظرية الذرية التي تنص على أن كل الاشياء
مصنوعة من ذرات وهي جسيمات صغيرةوتتحرك بصورة
دائمة جاذبه بعضها البعض ولكنها تتنافر اذا حاولنا الصاق بعضها ببعض))ريتشارد فاينمان
والآن ماذا نقول عن الخالق؟
إنه لا يمكن أن يكون عدماً؛ هذا أمر بديهي. وإذا لم يكن عدماًَ فلا بد أن يوصف بصفات ثبوتية.
ولا يمكن أن يكون ذا وجود ذهني مجرد؛ لأنه هو خالق الأذهان فوجوده سابق لوجودها.
لم
يبق إذن إلا أن نقول إنه ذو وجود خارجي حقيقي موضوعي. وإذا قلنا ذلك لزمنا
القول بأنه شيء, وأن له ذاتاً تحمل صفاته, وأن له شخصاً, وأن له صورة, وأن
له كيفاً يتميز به عن مخلوقاته. وإذا كان كذلك لزم إمكان رؤيته, والإشارة
إليه؛ لماذا؟
لأن هذه صفات لازمة لكل موجود, خالقاً كان أم مخلوقاً, فما لا يتصف بها لا يكون موجوداً حقيقياً ودعك أن يكون خالقاً.
أعلم
أن بعض الناس سيقف شعرهم مما قلت؛ لأن بعض الأفكار الفلسفية المادية وجدت
طريقها مع الأسف الشديد إلى الفكر الإسلامي منذ زمن بعيد فأفسدت على الناس
فطرتهم, ثم أفسدت عليهم عقولهم فجعلتهم يأنسون إلى ما تنفر منه الطباع
الفطرية, ويقررون ما تنكره العقول السوية.
أصل هذه الفلسفة المادية التي
تأثر الجهمية والمعتزلة من ناحية, والمشبهة المجسمة من ناحية أخرى, أن
الموجود حقيقة هو هذه المخلوقات المادية المشاهدة, فإذا كان الشيء موجوداً
فلا بد أن يكون مثلها وإلا فما هو بموجود.
مَالَ المشبهة
إلى جانب إثبات وجود الخالق, ولما كان الموجود عندهم - بحسب تلك الفلسفة -
لا بد أن يكون مشابهاً لهذه الموجودات المخلوقة, فقد شبهوا الله - سبحانه –
بمخلوقاته , فجعلوا صفاته, من سمع وبصر وكلام ويد وعين مشابهة لصفات
الأجسام الحادثة هذه, مع فارق في العِظَم والقوة.
ومَالَ الجهمية
إلى جانب تنزيه الخالق عن مخلوقاته, لكنهم لما اعتقدوا أن الموجود حقيقة
لابد أن يكون جسماً كهذه الأجسام, اعتقدوا أن كل صفة توصف بها هذه
المخلوقات لا يمكن أن يوصف بها الخالق وإلا كان مشابهاً لها، فصار غلاتهم
ينكرون كل الصفات الثبوتية للخالق، أو يؤوِّلونها تأويلاً يعطل معانيها،
ولا يصفونه إلا بالأوصاف السلبية. وأما غير الغلاة - وتندرج تحتهم جماعات
أخرى كالأشاعرة - فجعلوا يفعلون هذا مع بعض الصفات دون بعض، ينكرون أو
يؤوِّلون من الصفات ما يرونه دالاً على المشابهة، كالذات والعين واليد، لكن
ما لا يوصف إلا بالصفات السلبية إنما هو العدم كما رأينا. لقد فرَّ
الجهمية من تشبيه الخالق بالمخلوقات ليقعوا فيما هو شر منه: تشبيهه
بالمعدومات!
لذلك قال أهل السنَّة: إن المجسمة يعبدون صنماً، والمعطلة يعبدون عدماً.
هذا
التصور الجهمي التعطيلي للخالق صار مع الأسف الشديد هو التصور الشائع الآن
بين جماهير المثقفين من المنتسبين إلى الإسلام والنصرانية واليهودية.وإذا
كان أصل البلاء إنما جاء من الفلسفة اليونانية المادية؛ فإن هذه الفلسفة هي
الإرث الفكري الذي ورثه الغرب وبنى عليه فلسفته المادية الحديثة. وإذا
كانت المادية القديمة هي الأصل الذي نشأت عنه المشكلة؛ فإن المادية الحديثة
هي الغذاء
الذي يمدها اليوم بالحياة. لقد تغلغل الفكر المادي المعاصر
في تصورات الناس كما لم يتغلغل الفكر المادي الأول؛ فصار جزءاً من مفهوم
العلم، بل صار عند كثير من الناس - حتى المعارضين له - جزءاً من مفهوم
العقل؛ لذلك صرت ترى المؤمنين المستمسكين بالدين الحق يصفون أصحاب هذا
الاتجاه بالعقلانيين، كأنما العقلانية والدين الصحيح لا يجتمعان. أما أهل
السنَّة السابقون فكانوا يسمونهم بأهل الأهواء؛ لأنهم كانوا يعلمون أن
العقل لا يمكن أن يكون سبباً لضلال، وإنما الذي سبب الضلال هو إتباع الهوى.
إن
مشكلة المعطل أنه يريد أن يكون مادياً ويريد مع ذلك أن يكون مؤمناً بالله؛
ولهذا يقع في تناقض لا مخرج له منه إلا باللجوء إلى التعطيل أو غير
التعطيل. إن ماديته تقتضيه أن يقول إنه لا موجود إلا ما كان مركباً من هذه
المادة.
وإيمانه يقتضيه القول بوجود موجود غير مركب منها. فهو لا
يريد أن يصف الخالق بأي صفة ثبوتية لأن هذا يجعله مادياً، ولا يريد أن ينفي
عنه صفة الوجود لأن هذا يتناقض مع إيمانه؛ فيبقى مؤمناً بوجود شيء يصفه
بأنه في كل مكان، وأنه لا يحده زمان ولا مكان، وأنه مطلق لا يشار إليه
ببنان، ولا شخص له ولا صورة، ولا يوصف بعلو ولا انخفاض ولا بكونه داخل
العالم ولا خارجه، وأنه لا يرى، ولا يتكلم، ولا يتحرك، ولا ولا ولا.
أليس
من حق الملحد المنكر لوجود الخالق أن يقول لأمثال هؤلاء ما الفرق الحقيقي
بيني وبينكم؟! إنكم تصفون هذا المعدوم بكونه خالقاً، وأنا أقول مادام
معدوماً فليس هناك من خالق. لكن إذا اتفقنا على الحقائق فلا مشاحة في
الألفاظ.
أما وقد بيَّنا أن هذا الموقف التعطيلي من صفات الخالق ليس
موقفاً عقلانياً، فقد آن أن نبيِّن أنه - أيضاً - ليس موقفاً إسلامياً؛
لأنه يخالف صريح النصوص القرآنية والسنِّية، ولأن تأويلاته تخالف قواعد
اللغة التي نزلت بها تلك النصوص.
كيف؟
الصفات التي دللنا عليها بالعقل والشرع يلزم أن تكون ثبوتية حقيقية.
العلاقة
بين الذوات وبعض الصفات علاقة ضرورية؛ أي إنه إذا كانت هنالك ذات أو ذوات
فلا جرم تكون لها صفات، وإذا كانت هنالك صفات وجودية فلا جرم تحملها ذات؛
فالصفات لا تكون مجردة عن الذوات ولا الذوات مجردة عن الصفات إلا في
الأذهان. أما الواقع المعاين فلا يعرف صفات مجردة ولا ذوات مجردة.
تم بحمد الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق