رحلة إلى داخل العالَم الجيني الكنوز المخفيه داخل الحمض النووي
رحلة إلى داخل عالم الجينات(*)
«إن ما كان يعرف بدنا DNA خردة يخبئ في طياته
كنوزا»، هذا ما يقوله عالم الحياة الحوسبي <.E بيرني>.
مقابلة أجراها <S .S. هال>
باختصار
من هو <.E بيرني>
المهنة
«راعي القطط الرئيسي» لتكتل المشروع ENCODE المؤلف من 400 عالم وراثة في العالم.
أين
معهد المعلوماتية الحيوية الأوروبي، كامبردج - إنگلترا.
مجال التخصص
إيجاد موسوعة تفصيلية للأجزاء الأكثر غموضا من الجينوم البشري.
المفهوم العام
«لدي هذا الإحساس القوي بأنني كنت جاهلا بمدى جهلي، أما الآن فأنا أدرك جهلي».
عندما تمكّن علماء الحياة في السبعينات من إلقاء بعض الضوء على تضاريس بيئة الجينات genes، تراءى لهم أن هناك قطعا صغيرة من الدنا تكوِّد coded البروتينات (المعروفة بالإكسونات exons)، وبدت كقطع صغيرة من الخشب تعوم في بحر واسع من المادة الوراثية المبهمة(1). ما سبب وجود هذه البلايين الأخــرى مـــن حروف الــدنا؟ يـعـتـقـــد <.F كريك> [العالم الشهير في شؤون الجزيئات والذي شارك في اكتشاف بنية الدنا الثنائي الحلزون(2)] أن هذا الدنا ليس أفضل إلا قليلا من الخردة.»
ومنذ ذلك الحين، صارت جملة «الدنا الخردة»(3) ملازمة لعلم الوراثة البشرية(4). وفي عام 2000، قدم علماءُ مشروع الجينوم البشري(5) المسودةَ المبدئية الأولى لتسلسل قواعد الدنا البشرية، حيث أظهرت القراءة الأولية للنتائج أن غالبية السلسلة - أي ما يقرب من 97 في المئة من 3.2 بليون قاعدة (أساس) - بلا وظيفة واضحة؛ وبعبارة أخرى، بدا وكأن «كتاب الحياة»(6) هو نص غير مشذّب إلى حد كبير.
ولكن في الوقت ذاته تقريبا، عمل تجمع من عدة مختبرات عالمية على إطلاق مشروع كبير ولكن غير ملحوظ، أسماه أحد علماء الحياة: أجزاء الجينوم البشري «المتواضعة وغير الطموحة واللاجينية». وقــد تطــلـب هـذا المشـروع، الذي عُرِف باسم موسوعة عناصر الدن(7) (باختصار: ENCODE)، من العلماء، من حيث الجوهر، الزحفَ على طول الحلزون المضاعف في محاولة للكشف عن أي شيء ذي جدوى حيوية. وبحلول عام 2007، نشرت المجموعة تقريرا أوليا أشار إلى وجود كنوز كثيرة وَسْطَ ما يدعى بالخردة، كما هو حال بعض الأغراض التي نضعها في سقيفة البيت.
الآن وفي سلسلة أوراق علمية تم نشرها في الشهر 2012/9 في مجلة نيتشر (8) Nature وغيرها، فقد بينت مجموعة المشروع ENCODE وجود مخزون مدهش من المفاتيح والإشارات والمعالم المطمورة في شريط الدنا البشري. وفي سياق النتائج، يعمل المشروع ENCODE، على إعادة اختراع المفردات التي يستخدمها علماء الحياة لدراسة ومناقشة وفهم ظاهرتي الوراثة والمرض لدى الإنسان.
وبهدف شرح annotate الجينوم، أدار الباحث <.E بيرني> [39) سنة (من معهد المعلوماتية الحيوية في كامبردج بإنگلترا] عملية التحليل، حيث تمت من خلال مشاركة 400 باحث تابعين لتكتل المشروع ENCODE، وقد أجرى هذا الباحث مقابلة - حديثا - مع مجلة Scientific American استعرض فيها المكتشفات الرئيسية التي تحققت؛ وفيما يلي مقتطفات من هذه المقابلة.
ساينتفيك أمريكان (SA): عمل المشروع ENCODE على كشف مشهد زاخر landscape بعناصر جينية مهمة - مشهد كان يعد في الماضي «خردة الدنا» Junk DNA، فهل كانت تصوراتنا القديمة حول الكيفية التي نُظم بها الجينوم بسيطة أكثر مما ينبغي؟
<بيرني>: دائما كان الجميع يعلم أن هناك في الجينوم ما هو أكثر من مجرد جينات مُكودة للبروتينات. وكنا متيقنين بوجود تنظيم لعمل الجينات. وما لم نكن نعرفه هو مدى هذا التنظيم. ولكي أعطيك فكرة عما أقصده، أقول إن هناك نحو %1.2 من الأسس مخصص للإكسونات المكودة للبروتينات، وقد توقع الناس بأنه «ربما هناك العدد ذاته منخرط في التنظيم، أو ربما أكثر قليلا». ولكن، حتى وإن اتخذنا موقفا محافظا من بيانات data مجموعة المشروع ENCODE فسينتهي بنا المطاف إلى القول إن ما يتراوح بين 8 و %9 من قواعد الجينوم، هي التي تدخل فيما يشبه العملية التنظيمية.
(SA): إذن، هناك في الجينوم قدر مخصص لتنظيم الجينات أكبر بكثير مما هو مخصص للجينات المكوِّدة للبروتين نفسها؟
<بيرني>: وإن %9 لا يمكن أن تمثل القصة كاملة. فأكثر الآراء تطرفا بخصوص النسبة التي تم تقديرها تصل إلى %50. وهكذا من المؤكد أن تلك النسبة ستكون أكبر من %9، ومن السهل المحاججة بنسبة تبلغ ما يقارب الـ%20. وهذه القيمة ليست بعيدة عن الواقع.
(SA): هل يتعين علينا الآن أن نعزل جانبا عبارة «دنا خردة»؟
<بيرني>: نعم، أعتقد أنه بالفعل لابد من شطب هذه العبارة كليا من القاموس. وكانت هذه العبارة أقرب إلى عبارة ملقاة لوصف ظواهر مثيرة جدا تم اكتشافها في السبعينات من القرن الماضي. وأنا مقتنع الآن بأنها طريقة غير مجدية لوصف ما يحدث في الجينوم
(SA): ما الذي فاجأك من «الخردة»؟
<بيرني>: تمحور الكثير من الجدل داخل المشروع ENCODE وخارجه حول ما إذا كانت نتائج تجاربنا تصف شيئا ما يجري فعلا في الطبيعة. كما كان هناك تساؤل آخر إلى حد فلسفي أكثر، حول أهمية هذه النتائج. وبكلمات أخرى، إن هذه الأشياء قد تحدث كيميائيا حيويا، لكن التطور، كما كان، أو أن أجسامنا، في واقع الأمر، لا تبالي. منذ عام 2003، استمر هذا الجدل. ومن ثم اتضح، من خلال عملنا وعمل علماء خارج مجموعتنا، أن قواعد التطور الخاصة بالعناصر المنظمة مختلفة عن تلك الخاصة بالعناصر المكودة للبروتين. إذ تبين من حيث المبدأ أن التحولات لدى العناصر المختلفة المنظِّمَة تحدث بسرعة أكبر بكثير. أي إنك عندما تجد جين تكويد بروتين في الإنسان، فغالبا ستجد تقريبا ما يماثله في الفأر، ولكن هذه القاعدة لا تنطبق على العناصر المنظِّمَة.
(SA): بعبارة أخرى، هل هناك تعقيد أكبر في تنظيم عمل الجينات وتطور أسرع لعناصر الجينوم المنظِّمة في البشر؟
<بيرني>: بالتأكيد.
(SA): هذا يمثل غالبا طريقة مختلفة في التفكير حول الجينات والتطور.
<بيرني>: لدي إحساس قوي بأنني كنت جاهلا بجهلي، والآن أدرك مدى جهلي. إنه لمدعاة للإحباط قليلا أن تصل إلى إدراك مستوى جهلك. إلاّ أن هذه هي طبيعة التقدم. وتتمثل الخطوة الأولى لفهم هذه الأشياء المجهولة في اقتناء لائحة بالأشياء التي على الفرد فهمها، وهذا ما نمتلكه هنا.
(SA): أشارت دراسات سابقة إلى أن الجزء الوظيفي الفعال من الجينوم يتراوح بين 3 و %15، سواء كان ذلك تكويدا لبروتين أو تنظيما لعمل الجينات أو عمل شيء آخر. هل أنا محق في أن بيانات المشروع ENCODE تعني أن ما يقارب %80 من مكونات الجينوم هي وظيفية؟
<بيرني>: يمكن استخدام بيانات المشروع ENCODE والوصول إلى نسبة مئوية تتراوح بين 9 و %80. وهذا بالطبع مجال واسع جدا. كيف يمكن تفسير ذلك؟ لنعد خطوة إلى الوراء. يلتف الدنا داخل خلايانا حول بروتينات متنوعة، معظمها هيستونات histones، وهي التي تعمل عموما على إبقاء كل شيء سليما وسعيدا. إلا أن هناك أنماطا أخرى من البروتينات، تدعى عوامل النسخ(9) ولديها تفاعلات معينة مع الدنا. يرتبط عامل النسخ في نحو 1000 موقع فقط أو على الأكثر في 50 000 موقع معين في الجينوم. وعليه فإننا عندما نذكر الـ%9 يكون المقصود بالتحديد مواقع ارتباط عوامل النسخ. من جانب آخر، يبدو أن نَسْخَ الدنا إلى رنا RNA يحدث دائما؛ ويتم فعليا نسخ نحو %80 من الجينوم. ولكن مازال هناك جدل قوي محتدم حول ما إذا كان هذا الكم الكبير من النسخ يمثل عملية خلفية ليس لها أهمية كبيرة جدا، أم أن للرنا المصنوع وظيفةً ما نجهلها حتى الآن.
شخصيا، أعتقد أن كل شيء يتم نَسْخُهُ جدير بالاستكشاف. وهذه إحدى المهام التي يتحتم علينا الانخراط فيها مستقبلا.
(SA): هناك انطباع سائد في أن محاولات تحديد التنوعات الجينية المشتركة المتعلقة بأمراض الإنسان عبر ما يسمى بدراسات الارتباط الجينومي الواسع (GWAS)(10)، لم تكشف الكثير. وبالفعل، بينت نتائج المشروع ENCODE الآن أن نحو %75 من مناطق الدنا التي سبق أن ربطتها الدراسة GWAS بالأمراض ليست لها علاقة بالجينات المكودة للبروتين. هل كنا مخطئين في التركيز على طفرات الدنا المكودة للبروتين فيما يخص دراسة الأمراض؟
<بيرني>: إن الدراسات GWAS مثيرة جدا للاهتمام؛ إلا أنها ليست رصاصة الطب السحرية. فالنتائج التي تبلورت عن هذه الدراسات دفعت الجميع نحو إعادة التفكير. ولكن عندما نضع الارتباطات الجينية مع بيانات المشروع ENCODE، رأينا أنه على الرغم من كون مواقع الارتباطات بعيدة عن الجينات المكودة للبروتين، فإنها في الواقع قريبة عن العناصر الجديدة التي نحن بصدد اكتشافها. لقد كان ذلك مدعاة للسرور. في الواقع، عندما أدركتها للمرة الأولى، كانت أبعد من أن تُصدق. وقضينا وقتا طويلا في التأكد من صحة كل شيء.
(SA): كيف يساعدنا هذا الاكتشاف على فهم المرض؟
<بيرني>: إنه بمثابة فتح باب. فكِّر في جميع الوسائل المختلفة التي يمكنك أن تنتهجها في دراسة مرض معين مثل مرض Crohn. هل نبحث في خلايا جهاز مناعة في الأمعاء؟ أم علينا أن ندرس الخلايا العصبية التي تحرض الأمعاء؟ أم أن ندرس المعدة وآلياتها في عمل شيء آخر؟
جميع هذه مجرد خيارات. والآن فجأة، أتاح لك المشروع ENCODE اختبار هذه الخيارات والقول «حسنا أعتقد أنه عليك البدء بالبحث في هذا الجزء من جهاز مناعة - الخلايا T المساعدة helper T cells.» وبإمكاننا عمل ذلك لعدد كبير جدا من الأمراض. وهذا بحق مثير للغاية.
(SA): بما أننا الآن نُنحي عبارة «دنا الخردة» جانبا، هل هناك تعبير مجازي آخر يمكن أن يوضح النظرة البازغة حول المشهد الجيني(11)؟
<بيرني>: انطباعي، هو أن هذا المشهد كالدغل الحقيقي؛ دغل كثيف من الأشياء عليك أن تجد طريقك من خلالها. فأنت تحاول أن تشق طريقك إلى موقع معين مع أنك غير متأكد أين أنت، ومن السهولة والحالة هذه أن يشعر المرء بالضياع.
(SA): في خضم العشرين سنة الماضية، جرى تكرار إعلام الجمهور أن من خلال هذه المشاريع الجينومية الكبيرة، بدءا بمشروع الجينوم البشري ومرورا بعدة مشاريع أخرى مختلفة، سيتم تفسير جميع ما نحتاج إلى معرفته حول «كتاب الحياة». فهل المشروع ENCODE يمثل ببساطة المشروع الأحدث في سلسلة المشاريع هذه؟
<بيرني>: أعتقد أنه في كل مرة كان يقال دوما إن «هذه أساسيات يُبنى عليها»، ولم يقل أحد «انظر، تلك قواعد الدنا، كل شيء تم تحديده وإزاحة الغبار عنه، فقط بقي علينا إنجاز القليل من فك الكود»، بل قال الجميع «إننا سنعمل على دراستها لمدة 50 سنة أو 100 سنة. ولكن ذلك يمثل القاعدة التي نبدأ منها». لديّ شعور بأن المشروع ENCODE يمثل الطبقة التالية لمصدر القاعدة، التي تسمح للآخرين باعتلائها والنظر إلى البعيد. ويكمن التغيير الكبير هنا في لائحة معرفة المجهول. وأعتقد أنه لابد للناس من أن يُدركوا أنه على الرغم من هذا الإحساس بالإحباط والتراجع الناجم عن اكتشاف مدى جهلنا، إلا أن تحديد تلك الفجوات يمثل إنجازا «جيدا»..
وقبل عشر سنوات لم نكن نعلم ما نجهله. ولا شك في أن المشروع ENCODE يأتي بأسئلة أكثر بكثير مما توفره كأجوبة مباشرة. وفي الوقت ذاته هناك لمرض Crohn، وللكثير من الأشياء الأخرى، مغانم سريعة وفاكهة متدلية، على الأقل للباحثين. حينما يكون بالإمكان القول للناس «يا إلهي، هل نظرت هناك؟»
إنها خطوة أخرى فقط وهي خطوة مهمة. ولكنني، أخشى أننا لسنا قريبين إطلاقا من نهاية المطاف.
(SA): أنت تطلق على نفسك في المشروع ENCODE «راعي القطط الرئيسي». كم كان عدد المشاركين في التجمع؟ وكيف كانت عملية تنسيق هذا المجهود الكبير؟
<بيرني>: يمثل هذا المشروع طريقة مختلفة لممارسة البحث العلمي. وأنا مجرد واحد من مجموع 400 باحث والوحيد المنوط به التأكد من أن التحليل قد تم تسليمه، وأن كل شيء تم كما هو مطلوب. ولكن تعيّن عليَّ أن أستند إلى مواهب الكثير، الكثير من الناس.
إذن، أنا أَشْبَهُ براعي قطيع قطط المدير. وليس بالضرورة ذاك الذي يستطيع عقله استيعاب جميع ذلك. وهذا يعود إلى الإحساس بأن هناك ما هو يشبه الدغل.
(SA): حسنا، يعود إليك الكثير من الفضل، فهم ليسوا مجرد قطط، إنما هم قطط عنيدة جدا.
<بيرني>: نعم إنهم كذلك. فالعلماء ليسوا بالتأكيد كالكلاب، والكلاب تركض بطبيعتها في مجموعات. أما القطط فلا. وأنا أعتقد أن هذا يختزل النمط الظاهري لدى العلماء. ولذلك لابد أحيانا من السير بمحاذاتهم لاتخاذ الوجهة ذاتها.
(SA): هل ترى هناك نقطة في المستقبل تتبلور فيها هذه المعلومات المعقدة إلى رسالة أبسط حول وراثة وأمراض البشر؟ أم علينا أن نتقبل حقيقة أن التعقيد هو ذاته في الدنا، كما كان سابقا؟
<بيرني>: نحن مخلوقات معقدة. وعلينا أن نتوقع وجود هذا التعقيد، إلا أنني أرى أنه يتعين علينا أن نكون سعداء بذلك، لا بل فخورين به.
JOURNEY TO THE GENETIC INTERIOR أو: رحلة إلى داخل العالَم الجيني.
(1) genetic gibberish
(2) DNA’s double-helical
(3) junk DNA
(4) human genetics
(5) the Human Genome Project
(6) Book of Life
(7) the Encyclopedia of DNA Elements
(8) علما بأن مجلة ساينتفيك أمريكان جزء من مجموعة نيتشر للنشر. (التحرير)
(9) transcription factors
(10) genome wide association studies
(11) the genetic landscape
الله يوفقك يامحمد
ردحذف