الخميس، 21 مارس 2013

مآل الحياة في الكون




مآل الحياة في الكون(*)
قبل بلايين السنين، كان الكون ساخنا إلى درجة تعذَّرت معها إمكانية
الحياة. وبعد مرور عدد لا يحصى من الدهور، سوف يصبح الكون
باردا وخاويا إلى درجة أن الحياة ـ مهما بلغت من الذكاء والإبداع ـ
سوف تتلاشى.
<M .L. كراوس> ـ <D .G. ستاركمان>

إن الحياة الأبدية اعتقاد جوهري في العديد من أديان العالم، وهي تُمجَّد عادة بتصويرها مثوى للخلود الروحي: حياة من دون ألم أو موت أو خوف أو شر، عالم بعيد عن الواقع المادي وحقائقه. ولكن هناك نوعا آخر من الحياة الأبدية التي نرجوها، حياة موجودة في نطاق الزمن. لقد كتب <تشارلز داروين> في كتابه أصل الأنواع Origin Of Species: «لما كانت أنواع الحياة كافةً سلالات مباشرة لمن عاشوا قبل العصر الكمبري Cambrian epoch، فقد نشعر شعورا أكيدا بأن التتالي الطبيعي للأجيال لم ينقطع البتة.. ومن ثم يمكننا أن نتطلع ببعض الثقة إلى مستقبلٍ آمن طويل الأمد.» ومع مرور الزمن، سوف تستنفد الشمس وقودها من الهدروجين، وستنتهي حينئذ الحياة كما نعرفها على كوكبنا. لكن الجنس البشري قادر على التكيف؛ فذريتنا ستبحث عن مآوٍ جديدة منتشرة في أركان الكون جميعه، مثلها في ذلك مثل الكائنات الحية التي استعمرت كل بقعة صالحة للحياة على الأرض. وسوف يكون للموت والشر دوراهما، وربما لا يندثر الألم والخوف البتة، لكننا نتوقع أن البعض من ذريتنا سوف يستمر في الحياة في مكان ما.

وربما لا يكون الأمر كذلك. فالمثير للدهشة هو أنه على الرغم من عدم فهم العلماء الكامل للأساس المادي للحياة أو لأسرار الكون، فإنهم يستطيعون تقديم تخمينات جيدة حول مآل الأشياء الحية. وتشير الأرصاد الكونية حاليا إلى أن الكون سيستمر في التمدد إلى الأبد، وذلك خلافا لما كان يظنه العلماء في وقت مضى، وهو أن الكون سوف يتمدد إلى أن يبلغ حجما أعظميا يأخذ بَعده بالانكماش. ومن ثم، ليس قدرنا أن نفنى في انسحاق أعظم big crunch متقد يُمحى فيه كل أثر لحياتنا الحالية والمستقبلية. ويبدو، للوهلة الأولى، أن التمدد الأبدي للكون مدعاة للتفاؤل؛ إذ ما الذي يمنع حضارة تتسم بذكاء كاف من البحث عن الموارد غير المحدودة اللازمة للوجود الأبدي؟

إن الحياة تزدهر بوجود الطاقة والمعلومات، ولكن الحجج العلمية العامة للغاية تشير إلى أنه ـ حتى في فترة زمنية لانهائية ـ لا يمكن جني سوى قدر محدود من الطاقة والمعلومات. إن استمرار الحياة يتطلب تواؤمها مع معرفة محدودة وموارد متضائلة. وقد استنتجنا تعذر استمرار وجود أي صورة معقولة للوعي في هذه الظروف.

صحاري الخلود الأبدي
في القرن الماضي، تراوح الإيمان بالأخرويات (البعث والحساب والخلود) بين التفاؤل والتشاؤم. فبعد التنبؤ الواثق لداروين بوقت قصير، أخذ علماء العصر الفيكتوري يبدون القلق من الموت احتراقا، حين يصل الكون برمته إلى درجة حرارة واحدة ويصبح بعدئذ غير قادر على التغير. وقد خفف اكتشاف تمدد الكون في العقد الثالث من القرن العشرين من هذا القلق، لأن التمدد يمنع الكون من الوصول إلى مثل حالة التوازن تلك. لكن قلة من علماء الكون محَّصوا المضامين الأخرى بالنسبة إلى الحياة في كون يتمدد باستمرار، إلى أن ظهرت مقالة كلاسيكية عام 1979 للفيزيائي <F. دايسون> [من معهد الدراسات المتقدمة في نيوجرسي] الذي كان قد تأثر بعمل سابق للعالم <جمال إسلام>، الذي يعمل في جامعة شيتّاگونگ ببنگلادش. وقبل نشْر بحث دايسون، أخذ الفيزيائيون يعيدون النظر في الموضوع دوريا(1). ومنذ عام 1998، حفزتنا الأرصاد الجديدة ـ التي تشير إلى مستقبل طويل الأمد للكون يختلف اختلافا بيِّنا عن التصور السابق ـ إلى إلقاء نظرة أخرى على الموضوع.

لقد مر الكون بمراحل كثيرة خلال الاثني عشر بليون سنة الماضية. وفي الأزمنة المبكرة، التي تتوفر الآن حولها معلومات لدى العلماء، كان الكون حارا وكثيفا للغاية؛ ثم أخذ يتمدد ويبرد تدريجيا. وكانت للإشعاع اليد العليا فيه على مدى مئات الآلاف من السنين، ويعتقد أن إشعاع الخلفية الكونية المكروي الموجة cosmic microwave background radiation هو من مخلَّفات ذلك العهد. ثم بدأت المادة بالسيطرة، وأخذت التراكيب الفلكية الأكبر في النشوء من خلال التكثف تدريجيا. والآن، إذا صحت الأرصاد الكونية الحديثة، فإن تمدد الكون آخذ في البدء بالتسارع، وهذا يشير إلى أن نوعا جديدا وغريبا من الطاقة ـ التي قد تكون نابعة من الفضاء نفسه ـ أخذ يفرض هيمنته.

إن الحياة ـ بشكلها الذي نعرفه ـ تعتمد على النجوم. ولكن النجوم فانية لا محالة، فقد تناقص معدل ولادتها بشدة منذ انفجار أوّلي حدث قبل نحو عشرة بلايين سنة. وسوف يذوي النجم الأخير ذو التكوين التقليدي بعد نحو مئة تريليون سنة من الآن، وسيبدأ عصر جديد؛ إذ سوف تغدو سيرورات ـ تصعب ملاحظتها حاليا بسبب بطئها ـ على درجة من الأهمية، مثل تشتت المنظومات الكوكبية بسبب اقترابها من النجوم، وإمكانية اضمحلال المادة العادية والمادة الغريبة exotic، والتبخر البطيء للثقوب السوداء.

يمتد طريق الخلود من الانفجار الأعظم عبر مولد النجوم وموتها (خط الزمن في أسفل الشكل). وعندما تذوي آخر النجوم، سيكون على الكائنات الحية الذكية البحث عن مصادر جديدة للطاقة، من قبيل الأوتار الكونية (في الشكل أدناه). ولكن ما يؤسف له هو أن السيرورات الطبيعية ـ كالظهور المفاجئ للثقوب السوداء ـ سوف تلتهم هذه التركيزات الخطية من الطاقة، وفي نهاية المطاف ستدفع الحياة في صورها المختلفة إلى البحث عن ملاذ آخر، إن استطاعت أن تجده. ولما كانت العمليات الحاكمة في الكون تؤثر بمقاييس زمن عظيمة التفاوت، فمن الأفضل استخدام لوغاريتم الزمن، بدلا من الزمن نفسه، على الخط الذي يمثله. وإذا كان الكون يتمدد الآن بمعدل متسارع، فإن التأثيرات الإضافية (موضحة على خط الزمن باللون الأزرق) ستجعل الحياة أكثر بؤسا.

ما الحدود الجوهرية التي سوف تواجه الحياة الذكية إذا افترضنا أنها تستطيع التكيف مع الأحوال المتغيرة؟ في حالة الكون الأبدي، الذي قد يكون ذا حجم لانهائي، يمكن للمرء أن يأمل في أن تتمكن حضارة متقدمة علميا من جمع كميات لانهائية من المادة والطاقة والمعلومات؛ لكن المثير هو أن هذا غير صحيح. فحتى بعد عمل شاق ومخطط جيدا على مدى أبدي، لا يمكن للأحياء أن يجمعوا سوى عدد محدود من الجسيمات وكمية محدودة من الطاقة وعدد محدود من المعلومات الجزئية الضئيلة. وما يجعل هذا الفشل أشد إحباطا هو أن العدد المتاح من الجسيمات والإرگات ergs والمعلومات يمكن أن يزداد بلا حدود. إن المشكلة ليست بالضرورة في نقص الموارد، بل في صعوبة جمع تلك الموارد.

إن المسؤول عن هذا الفشل هو الشيء نفسه الذي يسمح لنا بالاعتقاد بديمومة أبدية: إنه تمدد الكون. فمع ازدياد حجم الكون، تقل الكثافة المتوسطة لمصادر الطاقة العادية؛ فمضاعفة قطر الكون تؤدي إلى إنقاص كثافة الذرات فيه إلى الثُّمْن. أما في حالة موجات الضوء، فيكون التناقص أشد؛ إذ تنخفض كثافة طاقتها 16 مرة، لأن التمدد يؤدي إلى مطّها، ومن ثم إلى استنزاف طاقتها (انظر الشكل في أعلى الصفحة 21).

ونتيجة لانخفاض الكثافة هذا، يتزايد باطّراد الزمن اللازم لتجميع الموارد. وتكون عندئذ أمام الكائنات الذكية استراتيجيتان لفعل ذلك: إما أن تجعل المادة تأتي إليها، أو أن تحاول السعي إليها. بالنسبة إلى الخيار الأول، فإن أفضل نهج على المدى الطويل هو ترك المهمة للثقالة. إن الثقالة والكهرمغنطيسية هما القوتان الوحيدتان بين قوى الطبيعة اللتان تستطيعان جذب الأشياء مهما كان بُعدها. لكن الكهرمغنطيسية غير فاعلة هنا، لأن الجسيمات ذات الشحنات المتضادة يوازن الواحد منها الآخر، الأمر الذي يجعل الأشياء النمطية محايدة (متعادلة) كهربائيا، ومن ثم محصنة ضد القوى المغنطيسية والكهربائية البعيدة المدى. أما الثقالة فلا يمكن تحييدها، لأن جسيمات المادة والإشعاع تتجاذب ثقاليا ولا تتنافر.

توضح استراتيجية جمع الطاقة التي اقترحها الفيزيائي <S. فراوتشي>، الصعوبة البالغة للبُقْيا survival في المستقبل البعيد، أي بعد 10100 سنة من الآن أو نحو ذلك. وفي كثير من السيناريوهات الكونية، تتضاعف الموارد مع تمدد الكون ـ وتمدد أي كرة مرجعيةٍ reference sphere اختيارية داخله (الكرة الزرقاء) ـ ويدخل جزء متزايد منه حيز إمكانية الرصد (الكرة الحمراء). ويمكن لحضارة ما استخدام ثقب أسود لتحويل المادة التي تقتنصها من إمبراطوريته (الكرة الخضراء) إلى طاقة. لكن مع نمو الإمبراطورية، تزداد تكاليف اقتناص مساحات جديدة، ويصبح من العسير على القنص مواكبة سرعة انخفاض كثافة المادة. وفي الواقع، سوف تصبح المادة منخفضة الكثافة إلى درجة أن الحضارة ستعجز عن بناء ثقب أسود مأمون حجمه كبير بما يكفي لجمع تلك المادة.


استسلام للخواء
ومع ذلك، يتحتم حتى على الثقالة أن تقاوم تمدد الكون الذي يبعد الأشياء بعضها عن بعض، ويضعف من ثم الجذب المتبادل بينها. وفي الأحوال جميعها باستثناء حالة واحدة، تصبح الثقالة في نهاية المطاف غير قادرة على جذب وتجميع كميات أكبر من المادة معا. وربما يكون كوننا هذا قد وصل فعلا إلى هذه الحالة، وقد تكون الحشود المجرية هي أكبر الأجسام التي يمكن للثقالة جمعها معا [انظر: «نشوء الحشود المجرّية وتطورها»، مجلة العلوم، العدد 4(1999)، ص 16]. أما الاستثناء الوحيد من ذلك فيحصل إذا وقع الكون في حالة توازن بين التمدد والانكماش، وهي الحالة التي تستمر فيها الثقالة إلى الأبد في تجميع كميات أكبر من المادة. ولكن هذا السيناريو يبدو حاليا مناقضا للأرصاد، إضافة إلى أنه يواجه صعوبة تكمن فيه نفسه. فبعد 1033 عام أو نحوها، سوف تصبح المادة المتاحة مركَّزة، الأمر الذي يجعل غالبيتها تنهار داخل الثقوب السوداء، ماحيةً أي صورة من صور الحياة. إن الوجود في ثقب أسود ليس بالأمر المبهج. فعلى الأرض جميع الطرق تؤدي إلى روما، أما داخل الثقب الأسود فجميع الطرق تؤدي ـ في زمن محدود ـ إلى مركزه، حيث الموت وتقطيع الأوصال المؤكدان.

والأمر المحزن هنا هو أن استراتيجية البحث النشيط عن الموارد ليست أفضل حالا من المقاربة السلبية: انتظار الموارد لتأتي من تلقاء ذاتها. فتمدد الكون يستنزف الطاقة الحركية، ولذلك يتعين على الباحثين عن الموارد تبديد غنائمهم من أجل الحفاظ على سرعتهم. وحتى في أكثر السيناريوهات تفاؤلا ـ حين تتحرك الطاقة نحو أكياس الملتقطين بسرعة تساوي سرعة الضوء، ويتم الحصول عليها من دون خسارة ـ لا يمكن لأي حضارة الحصول على طاقة غير محدودة إلا داخل ثقب أسود أو بالقرب منه. وقد قام <S. فراوتشي> [من معهد كاليفورنيا للتقانة] عام 1982 باستقصاء هذه الإمكانية؛ وخلص إلى أن الطاقة المتاحة من الثقوب يمكن أن تتناقص بسرعة كبيرة تفوق سرعة تناقص تكاليف حصدها (انظر الشكل في أعلى الصفحة المقابلة). وقد أعدنا مؤخرا فحص هذه الإمكانية ووجدنا أن المأزق أسوأ مما ظنه فراوتشي: فحجم الثقب الأسود المطلوب لحصد طاقة إلى الأبد يزيد على حجم الكون المرئي.

إن التخفيض الكوني لكثافة الطاقة هو أمر مريع حقا إذا كان الكون يتمدد بمعدل متسارع. فالأشياء النائية كافةً التي يمكن رؤيتها حاليا سوف تتحرك في نهاية الأمر بعيدا عنا بسرعة تفوق سرعة الضوء، وبهذا ستختفي عن الأنظار. ولذلك سوف تكون الموارد الكلية المتاحة لنا محدودةً بما نستطيع رؤيته حاليا على أقصى تقدير (انظر ما هو مؤطر في الصفحة 22).

ليست أشكال الطاقة كلها عرضةً لأن تتناقص كثافتها بالقدر نفسه. فعلى سبيل المثال، قد يكون الكون مملوءا بشبكة من الأوتار الكونية ـ وهي تركيزات من الطاقة الرفيعة واللامتناهية الطول ـ التي يمكن أن تكون قد نشأت عندما أخذ الكون في التبرّد على نحو غير متجانس. ومن صفات هذه الأوتار الكونية بقاء الطاقة في وحدة الطول منها من دون تغيير على الرغم من تمدد الكون(2) . وقد يحاول الأحياء الأذكياء قطع أحد هذه الأوتار والتجمع حول النهايتين الحرتين ثم العمل على استهلاكه. وإذا كانت شبكة الأوتار لانهائية، فقد يأملون في سد احتياجاتهم إلى الأبد. والمشكلة في هذه الاستراتيجية هي أن السيرورات الطبيعية تستطيع فعلَ أي شيء تستطيع صورُ الحياة المختلفة فعله. وإذا ما استطاعت حضارة ما أن تعرف كيف تقطع الأوتار الكونية، ستنهار شبكة الأوتار من تلقاء نفسها. فمثلا، يمكن أن تظهر ثقوب سوداء على الأوتار تلقائيا وتلتهمها. لذلك لا يتمكن الأحياء إلا من استهلاك جزء محدود من الوتر قبل أن يلاقوا نهاية حرة أخرى لوتر. وفي نهاية المطاف، تختفي شبكة الأوتار برمتها، تاركة الحضارة خاوية الوفاض.

ماالذي يمكن قوله عن استغلال الخواء الكمومي؟ على الرغم مما سبق، قد يكون التسارع الكوني محكوما في ما يسمى الثابت الكوني، وهو شكل من الطاقة لا تتناقص كثافته مع تمدد الكون [انظر: «اللاتثاقل الكوسمولوجي»، مجلة العلوم، العدد 11(1999)، ص 58]. فإذا كان الأمر كذلك، كان الفضاء مملوءا بنوع غريب من الإشعاع يسمى إشعاع گبونز-هوكينگ Gibbons-Hawking أو إشعاع دي سيتر de Sitter. وما يؤسف له هنا هو استحالة استخراج طاقة لعمل مفيد من هذا الإشعاع؛ إذ لو أعطى الخواء طاقة لهبط إلى حالة (مستوى) طاقة دنيا، في حين أن الخواء ذاته هو أدنى حالات الطاقة.

ومهما تكن براعتنا، ومهما يكن الكون متعاونا معنا، علينا عاجلا أو آجلا مواجهة مشكلة محدودية الموارد المتاحة لنا. فهل هناك من أسلوب للتغلب على عقبات استمرار الحياة أبديا؟

إن الاستراتيجية الواضحة هي أن نتعلم كيف ندبر أمورنا بموارد أقل، وهو أسلوب كان دايسون أول من ناقشه كميا. فمن أجل تخفيض استهلاك الطاقة والحفاظ على هذا الاستهلاك منخفضا على الرغم من الإجهاد، علينا آخر الأمر تخفيض درجة حرارة أجسامنا. قد نفكر في بشر يولَّدون عن طريق الهندسة الوراثية ويؤدون وظائفهم الحيوية في درجات حرارة تقل قليلا عن 310 كلڤن (37 درجة سيلزية). ولكن لا يمكن خفض درجة حرارة جسم الإنسان كيفما يحلو لنا، فدرجة حرارة تجمد الدم هي حد أدنى لا ينبغي تجاوزه، الأمر الذي سيحتم علينا التخلي عن أجسامنا كليا في نهاية المطاف.

إن انخفاض كثافة الكون الناجم عن تمدد الفضاء يؤثر في أشكال الطاقة المختلفة بطرائق مختلفة. فكثافة المادة العادية (اللون البرتقالي) تضمحل بتناسب مباشر مع الحجم، في حين أن إشعاع الخلفية الكونية (اللون الأرجواني) يضعف بمعدل أسرع، لأنه ناجم عن امتطاط موجات الضوء التي غدت موجات مكروية أو موجات أكبر طولا. أما كثافة الطاقة الممثلة بثابت كوني (اللون الأزرق) فلا تتغير، طبقا للنظريات الحالية على الأقل.

ومع أن هذه الفكرة تلتقي مع ما تقول به حركة المستقبلية(3) futurism، فإن فكرة التخلص من أجسادنا لا تطرح أية صعوبات جوهرية. إنها تقتصر على افتراض أن الوعي لا يرتبط بمجموعة معينة من الجزيئات العضوية، وإنما يمكن احتواؤه في صور مختلفة متعددة تراوح بين السيبورگات(4) cyborgs وبين السحب البينجمية الحساسة(5). إن أغلب الفلاسفة وعلماء المعرفة المحدثين ينظرون إلى التفكير الواعي على أنه سيرورة يمكن للحاسوب القيام بها. هنا ينبغي أن لا نهتم بتفاصيل الموضوع (وهذا أمر مناسب ومريح لأننا غير أكفاء لمناقشتها)، إلا أنه لاتزال لدينا بلايين كثيرة من السنين لكي نصمم تجسيدا طبيعيا جديدا نتقمصه يوما ما بنقل ذاتنا الواعية إليه. لكن سوف يتعين على هذه «الأجسام» الجديدة أن تعمل في درجات حرارة أقل وبمعدلات استقلابية (أيضية)(6) metabolic أبطأ، أي بمعدلات أقل لاستهلاك الطاقة.
 
لقد برهن دايسون على أن الكائنات الحية إذا ما استطاعت إبطاء استقلابها عندما يأخذ الكون في التبرّد، أمكنها ترتيب أمورها من أجل استهلاك مقدار محدود من الطاقة على المدى الأبدي. وعلى الرغم من أن درجات الحرارة المنخفضة سوف تعمل على إبطاء الوعي ـ عدد الأفكار في الثانية ـ فإن هذا المعدل سيظل كبيرا على نحو يكفي من ناحية المبدأ لجعل عدد الأفكار الكلي غير محدود. باختصار، يمكن للكائنات الذكية أن تبقى إلى الأبد، ولا ينطبق ذلك على الزمن المطلق فحسب، بل على الزمن الذاتي subjective أيضا. وإذا ما ضمنت الكائنات الحية أن يكون لديها عدد لانهائي من الأفكار، فإنها لن تعترض على حياة ذات معدل أبطأ. وإذا كانت أمامك البلايين من السنين المديدة، فلِمَ العجلة؟

أسوأ كون ممكن

إن السيناريو الأشد كآبة بين السيناريوهات المقترحة كافة لكون يتمدد إلى الأبد هو ذلك الذي يهيمن عليه ما يسمى الثابت الكوني. فإضافة إلى أنه ينطوي من دون لبس على أن استمرار الحياة إلى الأبد في مثل هذا الكون أمر مستحيل، فإن نوعية الحياة فيه سوف تتدهور بسرعة أيضا. ومن ثم، قد نواجه مستقبلا مروعا إذا تأكد ما تشير إليه الأرصاد الحديثة من أن تمدد الكون يتسارع [انظر: «مسح الزمكان بالمستعرات الأعظمية»، مجلة العلوم، العدد 11(1999)، ص 52].

يؤدي التمدد الكوني إلى تباعد الأشياء بعضها عن بعض ما لم تكن مشدودة إلى بعضها بقوة الثقالة أو بقوة أخرى. وفي حالتنا، فإن درب التبانة هو جزء من حشد أكبر من المجرات. وهذا الحشد الذي يبلغ قطره نحو عشرة بلايين سنة ضوئية يظل وحدة متماسكة، في حين أن المجرات فيما وراءه تتبعثر مع تمدد الفضاء الفاصل بينها. وتتناسب السرعة النسبية لهذه المجرات النائية مع بعد بعضها عن بعض. وإذا تخطى البعد قيمة معينة تُسمى الأفق، تجاوزت السرعة سرعة الضوء (وهذا مسموح به في نظرية النسبية العامة؛ لأن السرعة تنشأ عن تمدد الفضاء ذاته). ونتيجة لذلك سوف نعجز عن رؤية ما هو أبعد من ذلك.

وإذا كان للكون ثابت كوني موجب القيمة بحسب ما تشير إليه الأرصاد، كان التمدد متسارعا: تبدأ المجرات بالتباعد بسرعة مطردة، وتبقى سرعاتها متناسبة مع مسافاتها، أما ثابت التناسب فيبقى من دون تغيير بدلا من التناقص مع الزمن، كما هي الحال إذا كان تمدد الكون متباطئا. لذلك فإن المجرات الموجودة الآن وراء أفقنا سوف تبقى خارج مجال رؤيتنا إلى الأبد. وحتى المجرات التي نستطيع رؤيتها اليوم ـ باستثناء تلك الموجودة في حشدنا المحلي ـ ستصل سرعاتها مع مرور الزمن إلى سرعة الضوء وتختفي عن أنظارنا. لقد بدأ التسارع ـ الذي يشابه التضخم الذي حدث في الكون المبكر جدا ـ عندما كان الكون في منتصف عمره الحالي.

وسوف يكون اختفاء المجرات البعيدة تدريجيا، حيث ينبسط ضوؤها إلى أن يصبح متعذرا كشفُه. ومع مرور الزمن، يتناقص مقدار المادة التي نستطيع رؤيتها، ويتلاشى عدد العوالم التي تستطيع سفننا الفضائية الوصول إليها. وخلال تريليونين من السنين، أي قبل موت آخر النجوم بوقت طويل، ستصبح جميع الأشياء الموجودة خارج الحشد المجري الخاص بنا غير مرئية، أو سيتعذر الوصول إليها. ولن تكون هناك عوالم أخرى لغزوها، وسوف نكون في الكون وحيدين حقا.

يختلف شكل الكون المتمدد اختلافا كبيرا تبعا لكون النمو متباطئا (التتابع العلوي) أو متسارعا (التتابع السفلي). إن الكون لانهائي في الحالتين، إذ يزداد حجم أي رقعة من الفضاء محدودة بكرة مرجعية تمثل البعد عن مجرات معينة (الكرة الزرقاء). إننا نستطيع رؤية حجم محدود فقط، وهذا الحجم ينمو باستمرار مع توفر الوقت للإشارات الضوئية لكي تنتشر (الكرة الحمراء). وإذا كان تمدد الكون متباطئا، سنستطيع رؤية جزء متزايد من الكون، وستمتلئ السماء بعدد متزايد من المجرات. أما إذا كان متسارعا، فنستطيع رؤية جزء متناقص من الكون، وفي هذه الحالة يبدو أن الفضاء سيصبح خاويا.


من أول وهلة قد يبدو هذا شيئا مقابل لا شيء، ولكن رياضيات اللانهاية تستطيع تحدي البديهة. ويجادل دايسون بأن حفاظ الكائن الحي على درجة التعقيد نفسها يستلزم تناسب معدل معالجته للمعلومات تناسبا مباشرا مع درجة حرارته، في حين أن معدل استهلاكه للطاقة يتناسب مع مربع درجة الحرارة (ينشأ تربيع درجة الحرارة عن النظرية الأساسية للتحريك الحراري). لذلك، تتقلص الاحتياجات من الطاقة بسرعة تزيد على سرعة تقلص النشاط المعرفي (انظر الشكل في أعلى الصفحة 24). إن جسم الإنسان يستهلك، وهو في درجة الحرارة 310 كلڤن، مئة واط تقريبا؛ أما في الدرجة 155 كلڤن فيمكن لكائن حي مكافئ في تركيبه أن يفكر بسرعة تعادل نصف سرعة تفكير الإنسان وأن يستهلك ربع الطاقة المناظرة. وهذه مقايضة مقبولة لأن السيرورات الفيزيائية في البيئة المحيطة تتباطأ بالمعدل نفسه.

النوم أو الموت
لسوء الحظ، ثمة صعوبة مخبوءة. فمعظم الطاقة يتبدد على هيئة حرارة، وهذه الحرارة يجب أن تتحرر على شكل إشعاع نحو الخارج، كي لا ترتفع درجة حرارة الجسم وتزداد سخونته. ومثال ذلك توهُّجُ جسم الإنسان بالضوء تحت الأحمر. وعند درجات الحرارة الشديدة الانخفاض، فإن المشعاع الحراري radiator الأعلى كفاءة هو غاز إلكترونات منخفض الكثافة. ومع ذلك، فإن كفاءة المشعاع المثالي تتناقص بمعدل يتناسب مع مكعب درجة الحرارة، وهو معدل أسرع من معدل تناقص الاستقلاب، وسوف نصل إلى نقطة يتعذر فيها على الكائنات الحية الاستمرار في إنقاص درجة حرارتها. وبدلا من ذلك، سيتعين عليها الإقلال من تعقيدها، أي أن تتغابى. ولن يمضي وقت طويل قبل أن يتعذر اعتبارها مخلوقات ذكية.


وقد يبدو لشخص يساوره الخوف أن تلك هي النهاية. ولكن من أجل تعويض النقص في كفاءة المشعاعات، اقترح دايسون، بجرأة، استراتيجية السبات hibernation؛ إذ تقضي الكائنات الحية فيها جزءا من وقتها في حالة استيقاظ، وأثناء نومها ينخفض معدل استقلابها، لكنها تستمر في تبديد الحرارة. وبهذا الأسلوب يمكنها أن تتوصل إلى إنقاص مستمر للدرجة المتوسطة لحرارة الجسم (انظر الشكل في الصفحة 25). وفي الحقيقة، فإنه نتيجة لقضاء الكائنات الحية جزءا متزايدا من وقتها في حالة نوم، ستتمكن من الاقتصار على استهلاك مقدار محدود من الطاقة، ومن البقاء على الرغم من ذلك إلى الأبد، ومن أن يكون لديها عدد غير محدود من الأفكار. ومن ثم استخلص دايسون أن الحياة الأبدية ممكنة في الواقع.

ومنذ أن نشر دايسون بحثه الأصلي، واجه مخططه صعوبات متعددة. وإحدى هذه الصعوبات أنه افترض أن درجة حرارة عمق الفضاء ـ وهي تساوي حاليا 2.7 كلڤن بحسب ما يحدده إشعاع الخلفية الكونية المكروي الموجة ـ سوف تتناقص باستمرار مع تمدد الكون، ومن ثم ستستمر الكائنات الحية في إنقاص درجة حرارتها إلى الأبد. ولكن إذا كان هناك ثابت كوني، فإن درجة الحرارة يجب ألا تقل عن القيمة التي يحددها إشعاع گبونز-هوكينگ. وطبقا للتقديرات الحالية لقيمة الثابت الكوني، فإن درجة حرارة هذا الإشعاع تساوي نحو 29-10 كلڤن. وكما أشار علماء الكونيات <R .J . گوت الثاني> و<J. بارو> و<F. تيلور> ونحن، كل على حدة، فما إن تبلغ درجة حرارة الكائنات الحية ذلك المقدار، حتى يتعذر عليها الاستمرار في إنقاص درجة الحرارة تلك من أجل توفير الطاقة.

أما الصعوبة الثانية فهي الحاجة إلى ميقاتيات تنبيه لإيقاظ الكائنات الحية دوريا. ويتحتم على هذه الميقاتيات العمل بوثوقية لأزمنة طويلة ومتزايدة، مع استهلاك طاقة قليلة ومتناقصة. وتشير أسس الميكانيك الكمومي إلى استحالة هذا الأمر. خذ على سبيل المثال ميقاتية تنبيه مكونة من كرتين صغيرتين توضعان على نحوٍ تفصل بينهما مسافة كبيرة وتوجهان الواحدة نحو الأخرى، ثم يجري تحريرهما، ولدى ارتطامهما معا ينطلق رنين جرس التنبيه. فلإطالة الزمن الفاصل بين رنينين للجرس، يلزم الكائنات الحية أن تحرر الكرتين على نحو يجعلهما تتحركان بسرعة أخفض. ولكن الميقاتية سوف تواجه في نهاية الأمر القيود التي يفرضها مبدأ الارتياب لهايزنبرگ الذي يمنع تحديد السرعة والموضع معا بدقة اختيارية arbitrary. وإذا كان أي من هذين المقدارين غير دقيق دقةً كافية، ستفشل ميقاتية التنبيه وتحوّل السبات الدوري إلى رقود أبدي.

قد يتخيل المرء ميقاتيات تنبيه أخرى يمكنها البقاء إلى الأبد أعلى من الحد الكمومي، وقد تصبح تلك الميقاتيات جزءا من الكائن الحي نفسه. ولكن لم يقدم أي شخص حتى الآن آلية معينة يمكنها إيقاظ كائن حي بوثوقية، مع استهلاك مقدار محدود من الطاقة.

التكرار الأبدي للشيء نفسه
والأمر الثالث الذي يضفي شكّا عاما حول إمكانية طول بقاء الحياة الذكية يتضمن قيودا أساسية على عملية الحوسبة. لقد كان علماء الحاسوب يعتقدون في وقت سابق استحالة إجراء العمليات الحاسوبية من دون استهلاك حد أدنى من الطاقة لكل عملية، ويتناسب هذا الحد الأدنى تناسبا طرديا مع درجة حرارة الحاسوب. ولكن في بداية الثمانينات من القرن العشرين، تحقق الباحثون من أن سيرورات فيزيائية معينة، من قبيل التأثيرات الكمومية وحركة براون العشوائية لجسيم في سائل، يمكن أن تكون أساسا لحاسوب لا يستهلك طاقة [انظر: «القيود الفيزيائية الأساسية على الحسابات»، مجلة العلوم، العدد 6(1988)، ص 6]. تستطيع مثل هذه الحواسيب العمل مع استهلاك قدر اختياري ضئيل من الطاقة. ولتقليل استهلاك الطاقة، يلزم أن تقلل الحواسيب من سرعة إجراء السيرورات فحسب، وهذه مقايضة قد تتمكن الكائنات الحية الخالدة من القيام بها إذا تحقق شرطان؛ الشرط الأول هو وجوب بقاء الكائنات الحية في توازن حراري مع بيئتها، والشرط الآخر هو أن على الكائنات الحية ألا تهمل المعلومات البتة؛ إذ لو فعلت ذلك لأصبحت الحوسبة غير عكوسة، وطبقا لمبادئ التحريك الحراري (الدينامية الحرارية)، فإن كل سيرورة غير عكوسة تبدد طاقة لا محالة.

حياة أبدية بطاقةٍ محدودة؟ إذا استطاع شكل جديد من أشكال الحياة خفض درجة حرارة جسمه إلى ما دون درجة حرارة جسم البشر، وهي 310 كلڤن (37 درجة سيلزية)، فسوف يستهلك طاقة أقل، لكن ذلك يحصل على حساب سرعة التفكير الذي يصبح أبطأ (الشكل الأيسر). ولما كان الاستقلاب يتناقص بسرعة أكبر من سرعة تناقص المعرفة، فقد يستطيع شكل الحياة هذا أن يحصل على عدد لانهائي من الأفكار بموارد محدودة. لكن أحد محاذير ذلك هو أن قدرته على التخلص من الحرارة الفائضة ستتداعى أيضا، الأمر الذي يمنع خفض درجة حرارته إلى ما دون نحو
 13-10 كلڤن. أما السبات (الشكل الأيمن)، فقد يتغلب على مشكلة التخلص من الحرارة. وعندما يأخذ شكل الحياة هذا في التبرد، ينفق جزءا متزايدا من وقته في حالة هجوع، وهذا يؤدي إلى خفض كل من المعدل المتوسط لاستقلابه ولسرعة معرفته. وبهذا الأسلوب يمكن أن يظل استهلاك الطاقة أدنى من أقصى معدل لتبديد الحرارة، مع استمرار السماح بعدد لانهائي من الأفكار، لكن مخططا كهذا قد يواجه مشكلات أخرى، من قبيل الحدود الكمومية.

وللأسف، يتعذر تحقيق هذين الشرطين في كون يتمدد. فمع الانبساط وتخفيض كثافة الطاقة اللذين يسببهما التمدد الكوني لموجة الضوء، تغدو الكائنات الحية غير قادرة على إصدار أو امتصاص الإشعاع اللازم لجعلها في حالة اتزان حراري مع ما يحيط بها. وبسبب محدودية المادة المتاحة لها، ومن ثم محدودية الذاكرة، سيتعين عليها مع مرور الوقت نسيان فكرة سابقة لكي تحصل على فكرة جديدة. فأي نوع من الوجود الأبدي يمكن لمثل هذه الكائنات الحية الحصول عليه، حتى من حيث المبدأ؟ إنها لن تستطيع جمع سوى عدد محدود من الجسيمات وقدر محدود من المعلومات، ولا يمكن لهذه الجسيمات والمعلومات أن تتراكب معا إلا بعدد محدود من الطرائق. ولما كانت الأفكار هي إعادة تنظيم للمعلومات، فإن المعلومات المحدودة تدل ضمنيا على عدد محدود من الأفكار، وأقصى ما يمكن للكائنات الحية أن تفعله حينئذ هو أن تعيش الماضي، مكررة الأفكار نفسها مرة تلو أخرى. لذلك يصبح الخلود سجنا بدلا من أن يكون أفقا دائم الاتساع أمام الإبداع والاستكشاف. قد تكون تلك الحالة حالة النرڤانا nirvana، أي حالة السعادة القصوى التي يُنسى فيها العالم الخارجي؛ فهل يمكن اعتبار مثل هذه الحالة حياة؟


إن من الإنصاف الإشارة إلى أن دايسون لم ييأس، فقد اقترح في تراسله معنا أن الحياة تستطيع تجنب القيود التي يفرضها الميكانيك الكمومي على الطاقة والمعلومات عن طريق النمو في الحجم أو استخدام أنواع أخرى من الذاكرة، مثلا. وبحسب تعبيره: السؤال هو ما إذا كانت الحياة نظيرية (تماثلية) analog أو رقمية digital، أي هل تضع حدودَها فيزياء الأوساط المتصلة أو الفيزياء الكمومية. من ناحيتنا، نحن نؤمن بأن الحياة على المدى الطويل رقمية.

هل هناك أمل آخر لحياة أبدية؟ إن الميكانيك الكمومي، الذي نجادل في أنه يضع مثل تلك القيود الصارمة التي يتعذر على الحياة تجنبها، قد يأتي في لبوس آخر لإنقاذها. فعلى سبيل المثال، لو كان الميكانيك الكمومي للثقالة يسمح بوجود أخاديد دودية wormholes مستقرة، لأمكن لأشكال الحياة أن تتغلب على الحواجز التي تضعها عن سرعة الضوء، وتنجح في بلوغ أجزاء من الكون يتعذر الوصول إليها بغير ذلك، وتجمع كميات غير محدودة من الطاقة والمعلومات؛ أو ربما تستطيع تشييد أكوان طفلة(7) وإرسال نفسها، أو على الأقل إرسال مجموعة من التعليمات لإعادة تركيب نفسها عبر الكون الطفل. وعلى هذا النحو، يمكن للحياة أن تستمر.

وفي جميع الأحوال لن تكون الحدود النهائية للحياة ذات مغزى إلا في سُلَّم زمني كوني حقا. إضافة إلى ذلك، يبدو بالنسبة إلى بعضهم أنه من المقلق أن تصل الحياة ـ في تجسيدها المادي ـ إلى نهاية محتومة. أما بالنسبة إلينا، فإنه لأمر مثير أن نستطيع التوصل إلى استنتاجات بشأن مثل هذه القضايا الكبرى على الرغم من محدودية معارفنا. ولربما كانت معرفتنا بعالمنا الساحر هذا وبقَدَرِنا فيه، هي نعمة أكبر من تمكننا من سكناه إلى الأبد.

رسالة من قارئ
لقد وصلت من قراء مجلة ساينتفيك أمريكان رسائل عديدة حول هذه المقالة اخترنا منها الرسالة المتميزة التالية:
مصير أبعد من الخيال
لقد صُدِمْتُ بالكثير من النتائج المستخلصة في المقالة «مآل الحياة في الكون». إن محاولتنا أن نتصور اليوم ما سنكون عليه بعد عدة بلايين من السنين، تشبه شخصا من العصر الحجري يتطلع إلى السماء بين أدواته الحجرية البدائية ليرى صاروخ أپولو وهو يندفع نحو القمر ـ والفرق هنا أن الفجوة بينه وبيننا ليست سوى قرابة مليوني سنة، أي نحو جزء في الألف من المدة التي تفصلنا عن مستقبلنا الذي تتحدث عنه المقالة. إن كل ما نعرفه الآن هو أننا، بعد عدة بلايين من السنين، سنكون قادرين على تعديل الفيزياء التي يخضع العالَم لقوانينها، إضافة إلى ما سيحدث من تغييرات على حالتنا الفيزيائية. وفي عام 000 000 1000 قد نغيّر الثابت Л إلى 2.8، وسرعة الضوء إلى متر واحد في الثانية. ومرة أخرى، فإن مجرد حقيقة إمكان تصور مثل هذه الأحداث ربما يعني أنها ستبدو بسيطة نسبيا لأحفادنا البعيدين. وبكل بساطة، فإنني أرى أن مؤلّفيْ هذه المقالة يفترضان أن تقانة هذه الأيام الناتجة من استثمار جزء طفيف من المعرفة البشرية المتراكمة حتى الآن تبدو وكأنها تقانة العصر الحجري مقارنة بتقانة الأزمان المستقبلية التي يتحدثان عنها.
جيف هيمنگوِي
سَرِّي ـ كولومبيا البريطانية

 المؤلفان
Glenn D. Starkman - Lawrence M. Krauss
يعتبران تأملهما في مستقبل الحياة امتدادا طبيعيا لاهتمامهما بالمجريات الأساسية لعمل الكون. وقد كان لكتابي كراوس حول تنبؤات الخيال العلمي: فيزياء رحلة النجوم الشاقة The Physics of Star Trek، وما بعد رحلة النجوم الشاقة Beyond Star Trek حافز مشابه. يرأس كراوس قسم الفيزياء في جامعة Case Western Reserve بكليڤلاند، وهو من أوائل علماء الكونيات الذين جادلوا بقوة لإثبات أن الكون يقع تحت هيمنة ثابت كوني، ويحظى هذا الرأي حاليا بالقبول على نطاق واسع. أما ستاركمان فهو أستاذ في الجامعة نفسها، لكن شهرته ربما ترتبط على نحو أكبر ببحوثه في مجال طوپولوجيا الكون. إن كلا المؤلفين متفائل محبط، فقد بحثا من دون جدوى عن طرائق تمكن الحياة من الاستمرار إلى الأبد.


مراجع للاستزادة 
TIME WITHOUT END: PHYSICS AND BIOLOGY IN AN OPEN UNIVERSE. Freeman J. Dyson in Reviews of Modern Physics, Vol. 51, No. 3, pages 447-460; July 1979.
THE A.NTHROPIC COSMOLOGICAL PRINCIPLE. John D. Barrow and Frank J. Tipler. Oxford University Press, 1988.
THE LAST THREE MINUTES: CONJECTURES ABOUT THE ULTIMATE FATE OF THE UNIVERSE. Paul C. W. Davies. HarperCollins, 1997.
THE FIVE AGES OF THE UNIVERSE: INSIDE THE PHYSICS OF ETERNITY. Fred Adams and Greg Laughlin. Free Press, 1999.
QUINTESSENCE: THE MYSTERY OF THE MISSING MASS. Lawrence M. Krauss. Basic Books, 1999.
LIFE, THE UNIVERSE, AND NOTHING: LIFE AND DEATH IN AN EVER-EXPANDING UNIVERSE. Lawrence M. Krauss and Glenn D. Starkman in Astrophysical journal (in press). Available at xxx.lanl.gov/abs/ astro-ph/9902189 on the World Wide Web.
Scientific American, November 1999
 

(*) The Fate of Life in the Universe
(1) [انظر: .The Future of the Universe," by D. A. Dicus - J. R. Letaw - D. C"
.[Teplitz - V. L. Teplitz; Scientific American, March 1983
(2)[ انظر : Cosmic Strings," by Alexander Vilenkin; Scientific American, December 1987"].
(3) هي حركة نشأت في إيطاليا نحو عام 1910 وتميزت بالدعوة إلى طرح التقليد ومحاولة التعبير عن الطاقة الدينامية المميزة لحياتنا المعاصرة.
(4) السيبورگ: تصور خيالي لشخص تفوق قدراته الطبيعية الحدود البشرية نتيجة لتدعيمه بنظام إلكتروني وميكانيكي متكامل.
(5) [انظر: "Will Robots Inherit the Earth?" by Marvin Minsky"
[Scientific American, October 1994
(6) الاستقلاب هو مجموع سيرورات التحول الغذائي داخل الجسم الحي، وهو يتضمن سيرورات البناء anabolism وسيرورات التقويض (التدرّك) catabolism، التي تحدث في خلايا الجسم وسوائله؛ وكذلك سيرورات التحول التي تجعل الطاقة في متناول التكوينات الدقيقة داخل الخلية. (التحرير)
(7) "baby" universes[انظر: "The Self Reporducing Inflationary Universe"
 by Andrei Linde; Scientific AmericanNovember 1994].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق